تونس.. الوفاق والمساواة في الميراث

تونس.. الوفاق والمساواة في الميراث

18 اغسطس 2018
+ الخط -
لا أعرف لماذا استذكرت تاريخ نشأة حركة النهضة التونسية (منذ كان يطلق عليها اسم الجماعة الإسلامية ثم حركة الاتجاه الإسلامي) عندما استمعت لخطاب رئيس جمهورية تونس، الباجي القائد السبسي، ومبادرته بشأن المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، والذي طالب فيها حركة النهضة، باعتبارها القوة الأولى في البرلمان، بدعم هذا المشروع. يقول السبسي "لا يوجد لدينا في تونس علاقة بحكاية الدين وحكاية القرآن أو الآيات القرآنية. هناك علاقة بالدستور، وأحكامه ملزمة، والدين ليس مرجعاً لتونس". وفي المقابل، يقول رئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، في مقابلة أجريتها معه في منتصف أبريل/ نيسان عام 2016، في مقر الحركة في العاصمة التونسية "إن حركة النهضة محكومة باعتبارات عديدة، وسياق ومنهج إسلامي أصولي منفتح ومرن لا تغادره، وهي حركة عقائدية بهذا المعنى، وتتحرّك من داخلها، ولأن الإسلام ميّز بوضوح بين الثوابت الدينية، وهي قليلة ولا تتجاوز سبعة بالمائة من بنية الإسلام، ومواطن اجتهادية تعتبر مجالاً واسعاً يسمح للحركة بالتحرك في منطقة تحكمها المصالح".
هل ستتعامل حركة النهضة، باختلاف توجهاتها وتنوع مكوّناتها الداخلية، مع قضية الميراث باعتبارها من الثوابت أم من القضايا القابلة للاجتهاد؟ أم ستتعامل معها باعتبارها قضيةً ذات عمق سياسي، وأن أي معركةٍ معها يمكن أن تمسّ بالتوازنات التي تضبط الإيقاع السياسي في تونس (التوافق ما بين "النهضة" وحزب نداء تونس)؟ يبدو أن الإجابة على هذه التساؤلات تكمن بين سطور مقال الغنوشي "لقاء باريس.. الدروس والتحديات والآفاق"، والذي نشره في 15 أغسطس/ آب الحالي، لا سيما في تأكيده على أهمية وضرورة تفاعل الحركة مع مبادرة رئيس الجمهورية بشأن مسألة الميراث وإخضاعها لمنطق الحوار. ولغة التوافق السياسي، كما يرى الغنوشي، هي من أهم المصطلحات السياسية التي أضافتها الثورة التونسية إلى أدبيات الحركة الإسلامية في تونس، وخصوصا حركة النهضة؛ لقناعته أنها تتناسب مع الديمقراطية الانتقالية.
قد يُستخدم خيار التوافق أمام المساواة في الميراث عبر تفعيل الاجتهاد للخروج من أصعب
لحظةٍ تمر فيها حركة النهضة، منذ الاعتراف بها قانونياً حزبا سياسيا عام 2011، لكن هذا المخرج قد يدخل الحركة في صداماتٍ داخليةٍ أكثر حدّة من المراحل السابقة، لا سيما مرحلة إقرار الوثيقة الدستورية، وما قدمته "النهضة" من تنازلات، وخصوصا في قضية إدراج الشريعة الإسلامية، والمساواة في العلاقة بين الرجل والمرأة، وازدراء الأديان والاكتفاء بإقرار حرية المعتقد. وعلى الرغم من الفصل ما بين التخصّص السياسي والوظيفة الدعوية الذي أعلنت عنه حركة النهضة في مؤتمرها العاشر في مايو/ أيار 2016، في مدينة رادس، إلا أن هذا القرار لم يضعف من قوة تأثير الدعاة، وخصوصا المتمسّكين بمنهجية حركة الاتجاه الإسلامي السابقة ورؤيتها، والتي كانت ترتكز، كما يذكر وليد المنصور في وثيقته "الاتجاه الإسلامي وبورقيبة: محاكمة من لمن؟"، على أن مهمة الحركة ليس دينياً فقط بل وسياسياً، تبعاً لقاعدة أن الإسلام دين وعمل، وأصبح ينحو بالتنظيم إلى العمل السياسي والطموح إلى الوصول إلى الحكم، وجعله مبنياً على المنهج الإسلامي.
إلى جانب الصراعات والضغوط السياسية المحلية والدولية، والتي تجاوزتها حركة النهضة في أكثر من محطة من تاريخ تجربتها السياسية، هناك صراعٌ داخلي بين اتجاهيْن، وهو نتاج لعدة أسباب، أحدها مشروع المساواة في الميراث. يدفع الأول بتجديد الفكرة الإسلامية والخروج من المفهوم التقليدي للإسلام السياسي نحو فضاء أرحب، وأكثر واقعية وبراغماتية، (أو كما يذكر الغنوشي نحو الإسلام الديمقراطي). ويرى ضرورة تنازل الحركة عن الصفة الإسلامية؛ لأن الإصرار على تبنّي الإسلام إيديولوجية حزبية سيعمّق الانقسام المرجعي، وتحرير الإسلام من الصراع السياسي سيعيد إليه مكانته مرجعيةً جامعة للناس، أما الآخر فتمثله كوادر ومجاميع ترفض التنازلات المستمرة، لا سيما عن الثوابت الدينية، وتستمد قوتها من قاعدةٍ اجتماعية، لا يمكن الاستهانة بها.
التكيّف مع خصوصية البيئة التونسية وما نجم عنها من تونسة للأفكار كان أحد عوامل بقاء الحركة وصمودها أمام المتغيرات وإكراهات الواقع. ولكن هل سيستمر هذا التوجه مع مشروع قانون المساواة في الميراث؟ وهل حرية اختيار المورث ما بين القانون المدني أو الشريعة الإسلامية، كما ذكر السبسي في خطابه، مؤشر على استمرار الوفاق ما بين "النهضة" و"نداء تونس"؟ وهل سيتغلب التيار الحداثي في حركة النهضة على المدرسة التقليدية الرافضة هذا المشروع؟

4B08AFB1-3D3B-425F-B17B-768E0D2CDA4E
4B08AFB1-3D3B-425F-B17B-768E0D2CDA4E
مبارك الجِرِي

باحث كويتي، له كتابان "تحولات الإسلام السياسي.. حركة النهضة التونسية نموذجاً" و"النهضة تتحول.. سلسلة حوارات مع حركة النهضة التونسية"

مبارك الجِرِي