أنقرة وواشنطن..لا صداقة ولا عداء ولا بيْن بيْن

أنقرة وواشنطن.. لا صداقة ولا عداء ولا بيْن بيْن

18 اغسطس 2018
+ الخط -
تتصاعد وتيرة الخلافات التركية الأميركية، من غير أن يبدو في الأفق، حتى تاريخه، ما ينبئ عن قرب حلها، إذ تتعدّى هذه الخلافات المطالبة الأميركية بإخلاء سبيل القس أو الراهب الأميركي أندرو برانسون، المحتجز في أنقرة منذ زهاء عامين، إذ ثمة مطالباتٌ تركيةٌ، في المقابل، تتعلق ببنك خلق التركي الحكومي والعقوبات الأميركية المفروضة عليه، وعلى نائب مديره، هكان أتيلا، المحتجز في واشنطن. وتتغذّى هذه الإجراءات من أجواء عدم ثقة متبادلة بين الجانبين، يعزّزها افتقاد كيمياء العلاقة الشخصية بين المسؤولين الأتراك والأميركيين.
واقع الأمر أن سلسلة الخلافات قديمة، وعلى الرغم من احتواء كل خلاف ينشأ وتبريده، إلا أن مفاعيله السلبية تبقى ثاويةً في عمق العلاقات بين الجانبين، وقد بدأت مع رفض أنقرة انطلاق المقاتلات من قاعدة إنجرليك الأميركية في الحرب على العراق عام 2003، وبعد نحو سنة على صعود حزب العدالة والتنمية. ثم اشتد سوء التفاهم مع تسيير تركيا أسطول الحرية في العام 2010 لفك الحصار عن قطاع غزة، وما تبعه من تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية. ثم احتلت مسألة الموقف من الإرهاب حيزا مهما في تصدّع العلاقات، فأنقرة تأخذ على واشنطن تعاونها المستمر مع الحركة الكردية المسلحة في سورية، ذات الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وواشنطن تضمر موقفا سلبيا ضد ما تعتبرها علاقاتٍ سبق أن نسجتها أنقرة مع حركات جهادية سورية، فيما تأخذ أنقرة على واشنطن سياستها المضطربة، بل المتخبّطة إزاء الوضع السوري. وترى واشنطن أن أنقرة تبدو ميالةً إلى إيران في الملف النووي للأخيرة، وما نجم عنه من اتفاق فيينا لعام 2015، وأنها لا تؤيد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، علاوة على أنها غير متحمّسة، إن لم تكن غير مؤيدة للعقوبات الأميركية المقرّرة أخيرا على إيران.
وبهذا تبدو مساحات الاختلاف أكبر من مساحات التفاهم بين الجانبيْن اللذين يجمعهما حلف 
شمال الأطلسي (الناتو). وقد بدأت أنقرة تلوّح بالخروج من الحلف، أو تجميد ارتباطها به، بما يُؤذن بخسارة استراتيجية لواشنطن في حال حدوثه. وبخسارةٍ لتركيا في حال تكتّل كل من اليونان وقبرص والدولة العبرية والولايات المتحدة ضدّها.
ومن اللافت أن الطرفيْن يحرصان على ضبط الخلافات بينهما وإدارتها بصورة هادئة، وعلى تفادي التصعيد الإعلامي، وذلك بأكثر من حرصهما حتى الآن على معالجةٍ جدّية لهذه الخلافات. وتبدو العلاقة بينهما كحال زوجين لم يكن لأيٍّ منهما يد في الارتباط بالآخر، ومؤسّسة الزواج التي تجمعهما محض أمر واقع، يجري تقبله على مضض، بيد أن الطرفين يتوجسّان من الانفصال، وما ينجم عنه من تداعياتٍ، بعضها معلوم مسبقا، وبعضها الآخر مجهول. ولهذا تبدو علاقات أنقرة وواشنطن، في هذه الآونة، غريبة بالفعل، فلا تسودها الصداقة ولا يحكمها العداء، ولا تقع في منطقة بيْن بيْن (وسطى) واضحة! ولا ينتبه الأميركيون، كما ينبغي، إلى تحولات الرأي العام التركي الذي بات يهجس بأن اهتزاز وضع العملة الوطنية ناجمٌ عن تدبير أميركي خفي، وقد جرى التعبير عن ذلك بوقوف المعارضة مع الحكومة إزاء ما أصاب الليرة التركية من تراجع دراماتيكي في الأسبوعين الماضيين.
ولا ينتبه الأتراك، بدورهم، كما ينبغي إلى أن هامش حركة الولايات المتحدة في الإقليم أو المنطقة، عدا عن العالم بأسره، يبقى أكبر من الهامش الذي تتحرّك فيه تركيا التي سبق أن وقعت في ما يشبه ارتكاب خطأ استراتيجي، بإضعاف علاقتها بالاتحاد الأوروبي، وضخّمت من الخلافات معه، ورفعتها إلى مصافّ تصادم حضاري وثقافي، بدل أن يتجه هذا التصادم نحو اليمين الأوروبي، الشعبوي حصرا، فالاتحاد الأوروبي عنصر وازن في العلاقات الدولية، ويتوفر على جالياتٍ تركية كبيرة، ويشكل مخزونا للسياحة نحو تركيا، إضافة إلى أسواقه الواسعة، على الرغم من أية تقييدات أمام السلع التركية. إضافة إلى المشروع القديم بالانضمام التركي إلى الاتحاد القاري. والسلبية الأوروبية البادية حيال الأزمة الأميركية التركية ناجمةٌ عن اهتزاز العلاقات مع أنقرة، خلال السنوات القليلة الماضية، فيما لم تتردّد المجموعة الأوروبية في إظهار خلافاتها مع واشنطن، بخصوص الاتفاق النووي مع إيران.
وكان غريباً أن تحرص أنقرة على تحسين علاقاتها مع طهران، بدلاً من أن تفعل ذلك مع 
المجموعة الأوروبية، علماً أن أحد الأهداف الاستراتيجية الإيرانية شبه المعلنة هو إضعاف تركيا في المنطقة، بما تمثله من وزن اقتصادي وقوة عسكرية وإشعاع سياسي ورمزية إسلامية، وما يمثله ذلك كله من منافسةٍ جدّيةٍ مع مكانة إيران في الإقليم. وينسحب الأمر نفسه على العلاقات مع روسيا التي شهدت تحسّنا مضطردا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ومع أهمية تحسين العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا وروسيا، إلا أنه لا يجمع بينهما أفق استراتيجي، فموسكو مهجوسةٌ بتصدير السلاح دون غيره، والحلول محل أميركا في السطوة والهيمنة والنفوذ العسكري، حيثما وسعها ذلك، ولا يعنيها تطور البلدان والمجتمعات وحقوق الشعوب، أو الاحتكام إلى قانون دولي وشرعية دولية، أو إقامة دول دستورية حديثة، يقترن فيها الاستقرار بحيوية المؤسسات واحترام الحريات، وسلوكها في سورية كاشف.
ولا شك بعدئذٍ أن مسار الأزمة مع أميركا تكتنفه التعقيدات مع وجود أمثال مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، لصيقا بدائرة القرار، وكذلك بعض الجمهوريين المحافظين، وحيث يسهل أن ترتدي الأزمة طابعا ثقافيا يتعلق بـالموقف من "قوة إسلامية صاعدة ومتمرّدة". وإن كان المرء لا يميل إلى ما ذكرته صحف عبرية عن مسعىً أميركي إلى فرض عقوبات على "قوتين إسلاميتين كبيرتين"، والمقصود إيران وتركيا، فالخلافات بين أنقرة وواشنطن تبدو محدّدة، على الرغم من حجمها غير الهيّن، ولا تتخذ طابعاً صراعياً، بخلاف الموقف الأميركي من إيران. ومن مصلحة تل أبيب تضخيم الخلافات بين أنقرة وواشنطن وتأجيجها، على خلفية الموقف التركي النقدي من الاحتلال الإسرائيلي. وهو ما يُشكّل، في المحصلة، تحدّياً عاجلاً للدبلوماسية في كل من تركيا والولايات المتحدة لنزع فتيل الأزمة، والاستعداد لتقديم تنازلاتٍ متبادلة، بعد أن أخفقت المستويات الأخرى في تطويق الخلافات ورفعتها إلى فرض عقوبات محدودة وآنية، ولا سابق لها بين الطرفين.