بعض النفاق البريطاني

بعض النفاق البريطاني

17 اغسطس 2018

بوريس جونسون.. عنصرية بلا حدود (18/7/2018/Getty)

+ الخط -
مفارقاتٌ صارخةٌ جرت في الشأن العام البريطاني خلال الأسبوع المنصرم، فضحت النفاق الطاغي في بلدٍ طالما تباهى بالانحياز للحريات الفردية والدفاع عن حقوق الإنسان، فبينما تمر تصريحات وزير الخارجية السابق، بوريس جونسون، العنصرية إزاء النساء المسلمات المنقبات، وكأنها من مزحات السياسي طويل اللسان، يتعرّض زعيم حزب العمال اليساري، جيرمي كوربين، لحملات تشويه وابتزاز بسبب مواقفه المناصرة للحقوق الفلسطينية والمعارضة للسياسات الإسرائيلية العدوانية. وفي مقابل مكاسب اقتصادية مع السعودية، تتخلى بريطانيا عن كندا، شقيقتها في أسرة التاج الملكي، وتتلكأ في الدفاع عن أبسط مبادئ وثيقة العهد العظيم (ماغنا كارتا- 1215)، ومبادئ الثورة المجيدة و"إعلان الحقوق" الذي أصدره البرلمان الإنكليزي عام 1689.
في الحالة الأولى، لم تجد أوساط سياسية وإعلامية بريطانية حرجاً في الدفاع عن مضمون مقالٍ نشره جونسون في صحيفة ديلي تليغراف شبَّه فيه "المسلمات اللاتي يرتدين البرقع بـ"صناديق البريد" أو "لصوص البنوك"، بل تنطحت بعض رموز حزب المحافظين للقضية من باب الدفاع عن حرية التعبير. أما رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، رئيسة حزب المحافظين، فاكتفت بتوبيخ جونسون. وحده آندرو كوبر، عضو مجلس اللوردات عن حزب المحافظين، ومستشار الحكومة السابق لشؤون الانتخابات، اتهم جونسون "بالخواء الأخلاقي والشعبوية". وأضاف في تغريدة على "تويتر": "حقارة بوريس جونسون تتجاوز حتى عنصريته التلقائية، ومغازلته بالقدر نفسه الفاشية".
مسّت إهانة جونسون ما يزيد عن أربعة ملايين مسلم في بريطانيا، وأكثر من مليار ونصف مليار مسلم في العالم، ومرت من دون أي عقاب زجري أو تعزيري. في المقابل، يتعرّض الزعيم العمالي، جيرمي كوربين، منذ سنوات، إلى حملة شعواء بسبب مواقفه المؤيدة لحملة المقاطعة الدولية لإسرائيل (BDS)، ويتهم اللوبي البريطاني المؤيد لإسرائيل كوربين بـ"معاداة السامية"، في خلطٍ متعمّد بين مناهضة إسرائيل والعنصرية ضد اليهود. وعلى الرغم من تأكيدات كوربين، ومؤيديه، رفضهم أي فكر أو قول معادِ للسامية، إلا أن زخم الهجمة التي يتعرّض لها الرجل وأنصاره يتصاعد كلما لاح ما يشير إلى إمكانية فوز كوربين وحزبه في الانتخابات العامة المقبلة.
وتجلى نفاق السياسة البريطانية كذلك في الصمت المريب إزاء الأزمة السعودية – الكندية. فمنذ الثاني من أغسطس/ آب الجاري، يوم كتبت وزيرة الخارجية الكندية، كريستينا فريلاند، تغريدةً بالإنكليزية والفرنسية، طالبت فيها بإطلاق سراح الناشطتين السعوديتين في حقوق الإنسان، سمر بدوي ونسيمة السادة، تعاملت الحكومة البريطانية مع الأزمة طرفا محايدا، وكأن كندا ليست جزءاً من التاج الملكي البريطاني، وليست عضواً في "الكومنولث"، وليست حليفاً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو كأن حقوق الإنسان في السعودية لا تهم بريطانيا، أو لربما لم تر لندن في صمتها عن الإجراءات السعودية ضد أوتاوا تشجيعاً للرياض قد يتمادى لاحقاً ليأكلها، كما أُكل الثور الكندي.
دفع النفاق البريطاني لندن للتخلي عن الشقيق الكندي، والاكتفاء بتعليق خجول للمتحدثة باسم الخارجية البريطانية اعتبر "كندا والسعودية شريكين قريبين للمملكة المتحدة"، ودعت الطرفين إلى "ضبط النفس"، ما يفسر هذا الموقف الرخو، أن تيريزا ماي الغارقة في ملف "بريكست"، وتداعيات الخروج القاسي من الاتحاد الأوروبي، لا ترغب في إغضاب السعوديين، وبالتالي تعريض عقود عسكرية بالمليارات للخطر، أو خسارة صفقة طرح جزءٍ من أسهم شركة أرامكو، في بورصة لندن.
في حالة جونسون- كوربين، يخضع المستوى السياسي والإعلامي البريطاني لضغط اللوبي الإسرائيلي، مع إبداء سلبيةٍ سمجةٍ إزاء مشاعر مسلمي بريطانيا، والمسلمين عامة. وفي هذا النفاق، يصطف سياسيو بريطانيا، إلا من رحم ربي، خلف مصالحهم الانتخابية، وهم يدركون وزن الجالية اليهودية التي لا يتجاوز عددها الثلثمائة ألف فرد، في مقابل ضعف تأثير الناخبين المسلمين، مهما عظم عددهم. وفي حالة كندا - السعودية، تتخلى بريطانيا عن شقيقتها كندا، وتفضل مصالحها الاقتصادية على التزاماتها الأخلاقية والإنسانية، وتختار التدثّر بموقف منافق لأجل حفنة من الدولارات.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.