خواء صحافي

خواء صحافي

16 اغسطس 2018
+ الخط -
لا أدري من الذي أقنع بعض الكتاب بأن عليهم إبداء آرائهم بكل قضايا الكون، حتى يشعروا بالانتماء إليه، وحتى يثبتوا أنهم كتّاب موسوعيون، يستطيعون الإفتاء بكل شيء؟ ثم من قال إن الكاتب الصحافي الناجح هو الكاتب الموسوعي، على الرغم من أن العصر كله الآن هو عصر التخصّصات الدقيقة جدا على صعيد كل مجالات الحياة تقريبا؟! ليست الكتابة الصحافية بعيدةً عن فكرة التخصص، حتى وإن كانت مروحة الخيارات للكاتب الصحافي أوسع من مراوح العاملين في مجالات أخرى كثيرة، فأكثر الكتاب نجاحا وانتشارا بين القراء هم الذين يعرف القراء اهتماماتهم العامة، ولا يتوقعون منهم ما يتجاوزها، إلا إذا تجاوزوها متسلّحين بمعرفةٍ تؤهلهم لذلك!
أواجَه أحيانا في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي بمن يصرّ على الإدلاء بدلوه في كل شاردةٍ وواردة من قضايا هذا العالم الواسع، ولا يتردّد في الكتابة عن قضايا لا يُعرف منها سوى عناوينها الكبرى وحسب! طبعا من حقّ كل من يريد أن يكتب ما يريد في الوقت والمكان اللذين يريدهما، لكن هذا الحق المطلق لا ينبغي أن يكون نافذة نحو السطحية، والتفاهة، والجهل، وقلة المعلومات، أو حتى تناقضها.
فالكتابة، وخصوصا الصحافية، تحتاج إلى معلوماتٍ حقيقيةٍ، يستند الكاتب إليها، ويتخذ منها مرجعيته، وهو يكتب عن قضيةٍ من القضايا، وإلا لأصبحت كتابتُه مجرّد تمرين لغوي فائض عن حاجة القارئ الذي يعرف ماذا يقرأ، وكيف يستثمر دقائق وقته في حدود ما يقرأ. وأسوأ من هذا أن يكون ذلك التمرين اللغوي الفائض خاليا حتى من الجماليات اللغوية التي يمكننا أن نبرّر للكاتب الانغماس في الكتابة، إن كان يملك منها ما يكفي لتمريرها علينا، نحن القراء، باعتبارها نصوصا تتوسّل الجمال وحده، وسيلة للعبور إلى ضفة المتلقي.
قبل أيام، كنت أطالع كعادتي صحف الصباح، لأكتشف أن كثيرين من كتاب الزوايا اليومية والأسبوعية فيها قد اختاروا الكتابة عن الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها تركيا نتيجة انخفاض قيمة الليرة التركية في سوق العملات، وهذا متوقع، ما دامت تلك الأزمة قد ألقت بظلالها على الأجواء العامة في المنطقة، نتيجة تجاذباتٍ كثيرةٍ تتعلق بمكانة تركيا في خريطة الشرق الأوسط الجديد، وعلاقاتها المتشابكة مع دول المنطقة كلها، لكن غير الطبيعي أن أجد من يكتب في هذه الأزمة وعنها من دون أن يملك معلوماتٍ تؤهله للخوض فيها، على النحو الذي فعله بجرأةٍ لا أحسده عليها. الغريب أن بعض تلك المقالات التي نشرت كانت محشوّة بمعلوماتٍ مغلوطةٍ تماما، وأرقام وإحصائيات قديمة، لم يعد لها أي قيمة حقيقية في الأزمة الجديدة. ولا أدري ما الذي يضطر الكاتب الصحافي المحترف للكتابة عن شأنٍ لا يفقه فيه، من دون أن يجتهد في البحث عن مرجعيةٍ كافيةٍ لكتاباته على الأقل! هل يكفي الكاتب أن ينحاز لتوجه معين في تلك القضية، أو غيرها، ليكتب ما يؤكد انحيازه وحده، من دون أن يستفيد القارئ سوى بتمييز ذلك الانحياز مثلا؟ هذا ما رصدته في معظم كتابات ومقالات الكتّاب العرب الذين كتبوا عن أزمة الليرة التركية أخيرا، للأسف.
لقد وفر لنا الإنترنت خياراتٍ واسعةً جدا، ومتوفّرة دائما يمكن اللجوء إليها قبل الكتابة، وبالتالي لا حجة للكاتب إن هو تجاهل تلك الخيارات، وفضّل أن يعتمد على الفراغ، ليختلق منه ما يشاء من معلوماتٍ يستند إليها في ترويج أفكاره التي قد تكون جيدة فعلا، لولا أنه أفسدها في تقديمها عبر تلك المعلومات المغلوطة، حيث لا شيء سوى الخواء سيكون نتيجة تلك الكتابات، وهو ما سينعكس سلبا على تقييم القارئ بقية مقالات الكاتب الأخرى، فالقارئ إن فقد ثقته في كاتبٍ ما فمن الصعب أن يستعيدها بسرعة.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.