عندما يكون الدبلوماسي شاهدًا

عندما يكون الدبلوماسي شاهدًا

15 اغسطس 2018

يان كوبيتش.. حلول ولا حلول في العراق

+ الخط -
يقال إن الدبلوماسي الناجح هو الذي يروي نصف ما يعرفه عن واقعةٍ ما، ويترك النصف الآخر إلى حين كتابة مذكراته، هكذا يفعل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، يان كوبيتش، وهو الدبلوماسي السلوفاكي الحصيف الذي قضى ثلثي عمره متنقلا بين القارّات، شاهدا على الصراعات والاختلافات، موثّقا لها، موفقا بين المختلفين، وناصحا للمتصارعين، ومرشدا وموجها، يحمل شهادات وخبرات عديدة، وينطق بخمسة ألسنة، ليس من بينها، للأسف، اللسان العربي. وهو منذ انتدبته المنظمة الدولية، قبل ثلاث سنوات، ليكون شاهدا على ما يجري في العراق، يقدّم دوريا "إحاطاته" بواقع الحال إلى مجلس الأمن، وفي كل مرة يعطي جرعة أملٍ في إمكان تحول المآل العراقي إلى ما هو أفضل، لكن كل شيء يظل كما هو إن لم يزدد سوءاً. ويظل كوبيتش ذلك الدبلوماسي الخبير الذي ينطق بنصف ما يعرفه، تاركا النصف الآخر إلى حين كتابة مذكّراته!
يؤشر كوبتش، في "إحاطته" أخيرا، بحياء دبلوماسي تقليدي على عدة ظواهر لم تعد خافية: عدم إيفاء الحكومات المتعاقبة بوعود الإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد، والاستياء الشعبي الذي قاد إلى انتفاضات متعاقبة، جديدها انتفاضة البصرة التي طالبت بحلول لمشكلات الكهرباء والماء والخدمات، وبفرص عمل لآلاف العاطلين، والتي سرعان ما انتقلت شرارتها إلى بغداد ومدنٍ غيرها، وظاهرة المحاصصة الطائفية المعوّقة للإصلاح المنشود، والتدخلات الخارجية التي ألقت بظلالها على الحال الماثل، لكن ما يعرفه كوبيش ولم يقله إن خمسة عشر عاما مرّت أهدرت فيها 862 مليارا من الدولارات، بما يكفي لتغطية ميزانيات دول، ولم يتغيّر حال الكهرباء ولا الماء، ولا الخدمات الأساسية، بل تردّى أكثر، ولم يعد سرّا أن الجزء الأكبر من 
هذه الأموال أخذ طريقه إلى جيوب حيتانٍ كبار تواطأ أفراد "النخبة" الحاكمة على حمايتهم، وهذا ما دفع شباب الانتفاضة إلى تخطّي مطالب الخدمات إلى ما هو أخطر وأهم: دستور جديد، حكومة انتقالية، وإجراءات جذرية حازمة لمعاقبة الفاسدين. تجاهل كوبيتش هذا كله، ولم يذكره في إحاطته مكتفيا بتزكية الحلول التي طرحها السيستاني في رسالته أخيرا في الاستجابة للمطالب المشروعة للمواطنين العراقيين، وتشكيل حكومة قوية للخدمات، ومكافحة الفساد الإداري والمالي، وتمتع المسؤولين بالشجاعة وتحمل المسؤولية!
وبالطبع، تعني الإشارة الخبيثة إلى مطالب مشروعة أن ثمّة مطالب أخرى تفتقر إلى الشرعية، والقصد ما يتعلق بالدعوة إلى التغيير الشامل التي تصاعدت فصولا!
يشير كوبيتش أيضا إلى ضرورة أن لا تتخذ الحكومة المقبلة منحىً طائفيا، وهو يعرف أن ذلك غير ممكن، في ظل "العملية السياسية" الماثلة التي تعتمد المحاصصة الطائفية على نحو معلن، ويكاد أن يكون مقنّنا، والذين توافقوا على "المحاصصة" وأوجدوا قواعدها، وجنوا أرباحها، لا يمكن أن يتنازلوا عنها بسهولة، ولا بد من تغيير جذري، يكون حلا أوحد، يفضي إلى واقع جديد، مبنيٍّ على عملية سياسية وطنية ترعاها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وهذا لم يقل به كوبيتش، وربما سيشير إليه في مذكراته في قابل الأيام.
أيضا وبلغة دبلوماسية حيية، ينتقد كوبيتش "عدم كفاية التدابير المتّخذة لمعالجة شواغل المواطنين، والحماية الهشّة لأوضاعهم، حيث لا تزال ظواهر الاختطاف والاغتيال مستمرة"، مؤكّدا ضرورة "التعجيل بتشكيل حكومة قوية، تضمن العدالة والحكم الرشيد ومكافحة الفساد ووضع السلاح بيد الدولة"، على أن أفصح ما أورده كوبيتش في إحاطته الجزء المتعلق بمشكلة المياه التي تتفاقم يوما بعد يوم، منذرا الجهات المعنية باحتمال أن تزداد ندرة المياه قي المحافظات الجنوبية الخمس خلال الأشهر المقبلة، ما يعرّض السكان لخطر انقطاع خدمات المياه، والأمراض، واحتمال حدوث نزوح بشري، يزيد من أعداد النازحين الذين خلفتهم حروب "داعش" في الموصل ومدن الوسط، ويضاعف أكلاف رعايتهم.
باختصار، كان كوبيتش هادئا في "إحاطته"، مقتصرا على ما هو ظاهر للعيان، مقترحا حلولا ولا حلول، متجنّبا وضع الكرة في مرمى الأمم المتحدة التي يمثلها، والتي يفترض أن واحدا من أهم شواغلها هو حال العراق وأهل العراق، وهو يحسب أمامه فسحة زمنية كافية، لتقديم "إحاطات" جديدة قد تشيع مقادير أخرى من الأمل، ومحتفظا بما لا يريد أن ينطق به في حرزٍ حريز إلى حين كتابة مذكراته التي من المؤكد أنها ستكشف عن وقائع، لو كشف عنها اليوم لغيّرت أحوالا ومآلات، لكنها عقدة الدبلوماسي الذي ينطق بنصف ما يعرف.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"