المعارضة السورية وصناعة الفرعون

المعارضة السورية وصناعة الفرعون

15 اغسطس 2018
+ الخط -
لا يمكن نكران دور القادة السياسيين والاجتماعيين وقادة الرأي في حياة الشعوب، فالقادة والقيادة ضرورة اجتماعية تستدعيها طبيعة الاجتماع البشري، وسبل إدارته، وتسيير شؤونه، من هنا أهميتها وخطورتها، من جهة، وصعوبة التمسّك بخاصيتها الرئيسة: الموضوعية، من جهة ثانية، وهذا يجعلها في تعارضٍ جذري مع الذاتية، مهما كان حجم هذه الذاتية أو نسبتها، فالذاتية مقتل القيادة، ووصفة لتدمير الدور المنوط بها اجتماعيا وسياسيا، والمحافظة على الموضوعية صراطها المستقيم ومطهرها الدائم.
صحيحٌ أن قيادة موضوعية خالصة حالة نادرة؛ وأن وجود نسبةٍ ما من الذاتية وارد باستمرار، بسبب غريزة البشر وميلهم إلى السيطرة والقيادة، من جهة، وللخضوع والانقياد، من جهة ثانية، ما يستدعي العمل على ترجيح الموضوعية ومقاومة الذاتية، بتسييج عمل القيادة بحدود وقيود وضوابط، وتكريس قيم المساواة والنّدّية والنقد والنقد الذاتي، لضبط ميل البشر إلى السيطرة والخضوع والتسليم للقادة، بسبب الكسل والتواكل والإحساس بالعجز أو الرهبة أو تحوّل الانتماء السياسي إلى عقيدة، والحزب السياسي إلى طائفة دينية، فـالحقيقة بنظر العضو السياسي النمطي "هي فقط تلك التي تعزّز، وتؤيد، وتطري على القائد الموقر"، وفق إيريك دريستر(الترامبية: الخطر الحقيقي ليس دونالد ترامب - كاونتربنتش:2/8/2018، ترجمة: علاء الدين أبو زينة، صحيفة الغد الأردنية: 9/8/2018).
شهدت التجربة البشرية حالات كثيرة من الانتقال من تقدير الميزات الشخصية والنضالية للقادة إلى التسليم بأقوالهم وأفعالهم، وإطلاق يدهم بالتصرف في اتخاذ القرارات وإعلان المواقف، من دون مشاورة أو مراجعة أو محاسبة؛ وإحاطتهم بهالة من التبجيل، تصل إلى حد تحويلهم، في 
أحيانٍ كثيرة، إلى مقدّس يحرّم تقويم مواقفهم وأفعالهم ونقدها. حصل ذلك وما زال يحصل في التجارب الإنسانية، على الرغم من ظهور وتلّمس انعكاسه السلبي والخطير على بنية العلاقة السياسية والتنظيمية في الدولة والمجتمع؛ في الحزب والمنظمات السياسية والاجتماعية، والخيرية والرياضية كذلك؛ وخصوصا في آلية اتخاذ القرارات والمواقف، على خلفية ارتهان الحركة السياسية للقدرات الشخصية لفردٍ أو عدد محدود من الأفراد، حاشية القائد وخلصائه، وتحول موقف القائد إلى محدّد سياسي واجتماعي، ليس للدولة والحزب والمنظمة فقط، بل وللمجتمع كذلك.
إذا كانت غزيرتا "السيطرة" و"الخضوع" هي علة عبادة الفرد والخضوع له، فإن للخضوع في الحالة العربية سببا إضافيا، يتمثل في عشق "البطولة" أو "الرجولة"، والتي تجسّدها نظرة قطاعات واسعة من الشعوب العربية بتقدير الرئيس العراقي الراحل، وتبجيله وتعظيمه، فقط لأنه تحدّى أميركا، وأطلق صواريخ على "إسرائيل"؛ وتجاهل سياساته الداخلية والخارجية ونتائجها المدمرة.
يستطيع المراقب بسهولة تلمس انتشار ظواهر "السيطرة" و"الخضوع" في التجربة السياسية السورية، ليس بين الحركات الإسلامية التي تتبنّى، بشكل علني وصريح، مبدأ الطاعة والخضوع للقيادة، وعدم مراجعة قراراتها أو مواقفها وأفعالها، أو اليسارية التي نمطتها واستنزفتها التبعية للتجارب الخارجية الكثيرة والمتعارضة، فقط، بل وبين التجمعات الديمقراطية والليبرالية والمدنية التي ظهرت في مطلع الألفية الثالثة.
هنا عيناتٌ من ممارسات ومواقف لقيادات يسارية وإسلامية وديمقراطية ذات دلالة على ضعف، إن لم يكن غياب ثقافة موضوعية مهمة القادة والقيادة، وحالات نافرة من السعي إلى السيطرة، من جهة، واستمراء الخضوع، من جهة أخرى، يمكن تلمس تجلياتها في ممارسة المعارضة، خلال ثورة الحرية والكرامة والمحصلة السلبية والهزيلة التي ترتبت على هذه الممارسة.
عيّنة 1: عندما انفجر الخلاف في قيادة الحزب الشيوعي السوري عام 1972 بدأ التسابق المحموم بين الجناحين المتصارعين (خالد بكداش – رياض الترك) على استقطاب كوادر الحزب. كانت سردية جناح بكداش تستند إلى معادلة بسيطة ومرعبة في آن، أساسها طرح سؤال على الكوادر والقواعد: من يفهم أكثر سوسلوف (ميخائيل سوسلوف منظر الحزب الشيوعي السوفياتي 1964 - 1982) أم رياض الترك؟ فيأتي الجواب الذي ترتّب على نمط التربية داخل صفوف الحزب: سوسلوف، فيرد السائل: سوسلوف معانا.
عيّنة 2: كان للأحزاب اليسارية والقومية المتحالفة في "التجمع الوطني الديمقراطي" (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، حركة الاشتراكيين العرب، حزب البعث/ 23 شباط، حزب العمال العربي الثوري) أيقوناتها الثابتة؛ فكلما تحدّثوا عن مراجعهم ورموزهم الفكرية والسياسية ذكروا ثلاثة أسماء: ياسين الحافظ، إلياس مرقص، جمال الأتاسي، ويضيف بعضهم عبد الكريم زهور، مع أنهم جميعا انتقلوا إلى رحمة الله من سنين طويلة، آخرهم توفي قبل عقدين تقريبا، وأفكارهم ومواقفهم غدت ماضيا بفعل التغيرات المتسارعة التي عرفتها سورية والمنطقة والعالم.
عيّنة 3: في حديث مع قيادي من جماعة الإخوان المسلمين، جمعتني به مصادفة عند صديق عام 1975، كنت وقتها أدرس الفلسفة في كلية الآداب جامعة دمشق، عرضت معلوماتي عن المذاهب الفلسفية، مع توجيه ملاحظات نقدية لبعضها. أثرت إعجاب الرجل؛ وهذا دفعه إلى اختباري على أمل استقطابي لصفوف الجماعة بقوله: إنه يرى أن جماعة الإخوان المسلمين الخيار الأفضل بين الأحزاب القائمة. فلما قلت: الموضوع بحاجة إلى إثبات، رد: أفي الله شك؟.
عيّنة 4: في جلسة للمكتب الإعلامي للجان إحياء المجتمع المدني عام 2002، بدأ جدال بين اثنين من مثقفي اليسار الماركسي الكبار، كانا تحولا منذ بعض الوقت إلى الليبرالية؛ خلفيته المنافسة والنجومية؛ تصاعد إلى مشادّة كلامية؛ احتدّت الكلمات، وتحولت إلى سباب وتهديد ودعوة للخروج من المنزل للعراك، وفعلا خرجا إلى الطريق العام، وسط ذهول بقية أعضاء المكتب الذين تحوّلوا إلى قوة فصل وتهدئة، استمرت طويلا قبل انفضاض العركة، وانسحاب الجميع إلى منازلهم.
عيّنة 5: سألني قائد بارز في حزب شيوعي عن رفيق له من أبناء مدينتي، وعند انتهاء إجابتي قال لي: سلم عليه، ولو أنه وقف ضدي. تتبعت الموضوع فعرفت أنه يتعلق بخلاف في الرأي، حصل داخل السجن قبل خمسة وعشرين عاما.
عيّنة 6: قال أمين عام تنظيم ناصري في حديث مع صحافي: أنا كزعيم للمعارضة، ولمّا استوضحه الصحافي: كيف أصبحت زعيما للمعارضة، هل جرى اختيارك؟ رد: ما في حديث، شيل مسجلتك ومع السلامة.
عيّنة 7: قيادي بارز لم يرشّح نفسه لموقع قيادي، وذلك تحت ضغط أعضاء المؤتمر، لكن 
محازبيه حوّروا الموقف بالادّعاء أنه تخلى عن الترشّح، كي يفتح الطريق لضخ دماء جديدة في مواقع القيادة، وحوّلوا الموقف إلى مأثرة شخصية، وقد كرّروا إشادتهم بتخليه عن القيادة، مع أنه بقي يتدخل في إدارة الحزب، ويتحكم بكل ممارساته الصغيرة والكبيرة.
عيّنة 8: رئيس للمجلس الوطني السوري يعتبر نفسه مطلق فكرة الديمقراطية في المعارضة السورية، إن لم يكن في سورية كلها، اتخذ قراراتٍ، وأعلن مواقف من دون علم المكتب التنفيذي، فلما اعترض عضو في هذا المكتب، أجابه "الرئيس" العتيد: نفذ ثم اعترض.
عيّنة 9: قيادي كبير في حزب يساري وديمقراطي، هاجسه الرئيس رصد تصرفات أعضاء حزبه وبقية أحزاب المعارضة، وعدّ سكناتهم عليهم، وتصنيف تصرفاتهم ومواقفهم وتقويمها، بجعل تصوّراته ومواقفه مقياسا لذلك.
عيّنة 10: قيادي ديمقراطي هاجسه الارتياب بالآخرين، ورصد تصرّفاتهم ومواقفهم وقراءتها وتأويلها على هذه الخلفية، وأخذ مواقف منهم على هذا الأساس.
عيّنة 11: مثقف ديمقراطي كبير لا يقبل النقد أو رفض رأي له، وكل نقد أو رفض رأي له يحول قائله إلى خصم يقاطعه، ويبدأ بشن حملة تشنيع ضده، بتسريب كل ما يعرفه عنه للآخرين.
عيّنة 12: قابلت بعد خروجي من السجن في شهر يونيو/ حزيران 2011 صديقا عزيزا وزميلا في المكتب الإعلامي للجان إحياء المجتمع المدني، كانت الخلافات بين أحزاب وشخصيات المعارضة بشأن الموقف من الثورة والدور المطلوب فيها قد بدأت بالظهور. وبعد حديث شخصي، دخلنا في حديث عن الثورة والتقديرات والاحتمالات؛ تباينت فيه مواقفنا وظهرت أقرب إلى موقف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، فرد بانفعال: بتخالف موقف رفقاتك، يقصد أعضاء لجان إحياء المجتمع المدني.