"قلق في الحضارة" في مرآة الحاضر

"قلق في الحضارة" في مرآة الحاضر

14 اغسطس 2018

فرويد: يولد الإنسان بكميةٍ من العنف في داخله (Getty)

+ الخط -
إذا كان هناك من الكتب ما يستأهل إعادة قراءة وتقييم على ضوء ما تعيشه البشرية، راهنا، من خيباتٍ وحروبٍ وفظاعاتٍ، فإن كتاب "قلق في الحضارة" الذي صدر عام 1930، لسيغموند فرويد (1856 - 1939)، هو حتما من الكتب التي سوف تحتل رأس القائمة. لقد وضع فرويد مؤلّفه هذا في مرحلة متقدّمة من عمره (74 عاما)، وبدا فيه شديد التشاؤم، بل صادما، في ما يتعلق بمصير الإنسانية، وقد وقف بوضوحٍ ضد مقولة إن الإنسان يولد خيّرا بطبيعته، وأن المجتمع هو الذي يُفسده. على العكس من ذلك، رأى فرويد أن الإنسان عنيفٌ بطبيعته، أنانيّ، لا يحتاج إلى حوافز، لكي يهاجم الآخرين، ويسيطر عليهم. شعورُه بوجود ذلك لدى الغير أيضا، يخلخل علاقاته بالآخرين، ويهدّد المجتمعات المتحضّرة بالانهيار.
باختصار، يولد الإنسان بكميةٍ من العنف في داخله، وبغريزةٍ حيوانيةٍ، تجعل منه ذئبا يشعر بحاجةٍ ضاغطةٍ للاعتداء على سواه. "لن يكون هناك أي معنى، ولا أية ضرورة، لمنع جرائم القتل، لو أن الإنسان لا يتوق إليها بقوة. إن شغف القتل أوّلي، في حين أن الأخلاق بناء تاريخي ثانوي". ليس الإنسان إذاً ذاك الكائن الطيب ذا القلب المتعطّش إلى الحب الذي يحكى عنه، والذي يدافع عن نفسه متى هوجم. بل إنه يحمل في داخله دوافع عدوانية، وبواعث تدميرية. "إنه يميل إلى إرضاء حاجته العدوانية على حساب أخيه، واستغلال عمل الآخر دونما تعويض، واستغلاله جنسيا من دون رضاه، والاستيلاء على أملاكه، وتحقيره وتعذيبه وقتله"...
بالطبع، يرتكز فرويد في رؤيته هذه على التاريخ، والحروب على وجه التحديد، ومنها الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها ولداه. وعندما جاءت الحرب العالمية الثانية التي شكّلت منعطفا مهما في تاريخ البشرية، لم تكذّبه، إذ بدت الحضارة في موقع الاتهام والمسؤولية عمّا لحق بالإنسان من دمار وهلاك، هي التي كان يُفترض لها حمايته ورسم مستقبل زاهر أمامه. بدلا من هذا، استفحل الفكرُ النازي والفاشي، وأصبحت الطوبى الاشتراكية كابوسا ستالينيا، وتحوّلت الليبرالية الرأسمالية إلى أزمةٍ اقتصاديةٍ طاحنة. ولأن الحرب، كما الحلم، "تُعرّي أخلاقيا"، وتسهّل التخلّصَ من الرقابة الأخلاقية، فإنها تسنح بعودة كل الدوافع العدوانية التي يتم كبتها، بفضل الروادع الاجتماعية والقوانين.
"لا تصبح الحياة المشتركة ممكنةً إلا حين تشكّل تعدديةٌ ما مجموعةً أكثر سطوةً مما هم أفرادها، وقادرة على الحفاظ على لحمةٍ قويةٍ في وجه كل شخص مستفرد". المجتمع، قديما وحديثا، حفاظا على ذاته قوة قامعة، ومنظِّمة، يدخل في صراعٍ مع الأفراد، حين يتمرّدون عليه، أو حين تملي عليهم دوافعهم الغريزية الخروج عليه. هكذا يحمي المجتمع نفسه من أفراده من خلال تحويل سلطته الخارجية إلى سلطةٍ داخليةٍ، يستخدمها الفرد ضد ذاته، بحيث يصير النزاع داخليا بين الأنا والأنا الأعلى. وهذا هو بالضبط ما ينتج شعورا بـالقلق وعدم الرضا، ويؤسّس لإحساسٍ بالضغينة حيال الثقافة والحضارة، يُرجعه الفردُ إلى أسبابٍ خارجية، لا إلى أسبابٍ داخليةٍ، مردّها الرغبات المقموعة، والتوق إلى تحقيق الذات. لذا فإن تطور الحضارة يرتكز على التخلّي عن الدوافع الغريزية الفردية، أو على تساميها والارتقاء بأهدافها (أعمال فنية، علمية، إيديولوجية)، بحيث تلعب دورا مهمّا في الحياة المتحضّرة.
الحضارة تفرض علينا التخلي عن غرائزنا، والأنا الأعلى يسيطر علينا ويقمع رغباتنا العدوانية، والاثنان ينتجان منطقا قاتلا: فالأنا الأعلى لا يُغدق علينا مشاعر الحب والسماح، كما أنه لا يلغي الرغبة بالإيذاء التي تتفاقم لدينا جرّاء قمعها. هكذا، يعذّبنا ضميرُنا بقدر ما يحمينا، ذلك أن الحضارة لا تهذّب ولا تمدّن، إلا من خلال تغذية القلق والشعور بالذنب.
أما عن مجالات التطبيق في ما آلت إليه حضارة القرن الحادي والعشرين، فحدّث ولا حرج.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"