ورم، وردة متوحّشة

ورم، وردة متوحّشة

13 اغسطس 2018

(مروان قصاب)

+ الخط -
كان صيف لندن هذا العام "هنديّاً" كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوتُ على أريكةٍ في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكلٌّ منهم يقيم في بلد، تأكّدت أنهم موجودون فعلا، فهم يتحدّثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلّل رأسي وعنقي بمنشفة. مع ذلك، أظنني سألتُ باستفهام، أو استنكار، (لست متأكّداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لستَ على ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جرى:
كنت أنزل من سيارة أجرةٍ أمام بيتي، ثم سقطتُ على الأرض. لكن، لِمَ كنت أستقلّ سيارة أجرة، وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي، بسبب صداعٍ "زائدٍ" عن الحد، أصابني في الأيام الماضية. صداعٍ غير ذلك الذي تعايشتُ معه طويلا. حتى مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود عليّ، ظلّت هناك ثغرةٌ لم تُردم. في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخٌ يشير إلى يومين سابقين. ما هذا؟ سوارٌ كهذا لا يوضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفى. هناك خَوَرٌ في جسدي. داخلي فارغ. إحساسٌ بتخدير قوي. تذكرت ليلةً طويلةً في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لديّ ألمٌ لا يُطاق في خاصرتي اليمنى. صداعٌ شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقّفوا عند اعتراضي. ألمٌ كهذا لا يُعالج إلا بالمورفين. هناك تقريرٌ صغير يقول: احتمال حصى في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.
لم تتأخّر سيارة الإسعاف التي أقلتني إلى مستشفى تشيرنغ كروس، ذائع الصيت، وليس مستشفى منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء، قام الطاقم الطبي بفحصى. ركّزوا على يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يديّ إلى الأعلى. خصوصا الجانب الأيسر. هؤلاء يحملون أجهزةً متكاملة. يصلون إلى نتائج سريعة، ويقرّرون طبيعة المستشفى الذي يتوجهون إليه. كنتُ وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفى. مستشفى آخر. سرير آخر. بجانبه كرسيّ لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل "الجيّد" لكليةٍ "سليمة". لكن هذه الكلية السليمة يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسدٍ لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتى في الخيال!
فهمتُ من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلّق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئيسي لمستشفى تشيرنغ كروس. إلى الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر اللافتات تشير إلى الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلى التصوير المقطعي. لا تتأخّر الصور في الظهور. أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدّم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرّر لاحقاً، بلا توقف تقريباً. يعود الجسد إلى اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملفٍّ طبي. جاء طبيبٌ شاب (مساعد) يدعى علي: مصري. يتحدّثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطةً دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلةٍ. سألني إن كنت أفضّل وجود فردٍ من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهّد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحك. قلت له: ارمها.
لم يتأخّر: الصور تُظهر، للأسف، ورماً في الدماغ. ماذا؟ ورمٌ في المنطقة اليمنى من الدماغ، ها هي الصورة. أرى الصورة. وردةٌ متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة. MASS
صمتّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.
ينتقل إلى ما هو عملي: سنبدأ علاجاً فورياً بالسترويد، لتخفيف ضغط الكتلة.
من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سمّيتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيتُه يدخل مكتباً قريباً للأطباء. تركت السرير. مشيتُ في ممرّ كان يعجّ بالممرّضات والممرضين والأطباء، وصار شبه مهجور الآن: وجدتُ نفسي أغني: أنت فين يا علي أمك بدوّر عليك!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن