واكندااااه

واكندااااه

12 اغسطس 2018
+ الخط -
لئن كانت كتب التاريخ قد وثّقت استغاثة "وامعتصماااه"، في أربع روايات مختلفة، انتصارًا لامرأةٍ عربيةٍ، سحلها الروم في أسواق عمورية، وأودعوها السجن، فإن كتب المستقبل لم توثق روايةً معاكسةً نادت فيها امرأة عربية أخرى، هي إنصاف حيدر، معتصمًا جديدًا بعينين زرقاوين، وشهامةً لا تقلّ عن نظيره الأول، صارخة "واكنداااه"، لنجدة زوجها رائف بدوي، الذي سحلته السلطات السعودية واعتقلته، منذ عام 2012، لا لشيء سوى انتقاده النظام الحاكم في بلده.
والغريب أنه في الحادثتين، كان ثمّة "كلبان" ركبا ذيليهما، ولم يصغيا لنداءي المرأتين. في الأولى هدد المعتصم "كلب الروم" بأن يغِير عليه بجيشٍ بدايته على أسوار عمورية، ونهايته عند المعتصم. وفي الثانية هدد المعتصم الكنديّ خصمه بجيشٍ من أصحاب الضمائر، وحقوق الإنسان، آخره عند حدائق "العالم الحرّ" الذي لا يتنازل عن مبادئه في الانتصار لحق الإنسان في التعبير عن الرأي، وأوله عند أسوار "العالم العبد" الذي لا يقيم وزنًا للإنسان نفسه، بعظمه ودمه، فكيف بحقوقه الفكرية والمدنية.
ومن وراء البرقع السياسي، يتكوّر فيه خصمٌ متنمّر كالبهلوان، ظنّ أن في وسعه الضغط على المعتصم الكنديّ، بطرد سفيره، وتجميد علاقاته التجارية وخطوط الملاحة الجوية معه، فكان كقزم يهدّد عملاقًا بالانتحار أمامه؛ إلا إذا كانت العنجهية الجوفاء أوحت للقزم بتفوّقه التجاري والصناعي والحضاري على العملاق الكندي، أو أن العالم الحر سيصطفّ إلى جانبه، في معركةٍ محسومة النتائج والاصطفافات سلفًا؛ لأن الحريات، في عرف ذلك العالم الذي ما يزال يجهله القزم، معركة مبادئ ومصير، ولن يكون مستعدًا للتفريط فيها أو التنازل عنها، حتى لو انتحر القزم أمامه، ومن ثم فهو سيصطفّ إلى جانب كندا في معركة الدفاع عن الحقوق الإنسانية، مهما فدح الثمن.
أيضًا، فات القزم أن الاصطفافات إلى جانب المرأة المستجيرة لا تتوقف على العالم الحر، بل أراهن أن الشعوب العربية، برمتها، تقف خلف المرأة، وخلف كندا، كذلك؛ لأنها شعوبٌ بلغت نقطة الانفجار من طغيان حكّامها، ولم تعد تؤمن بغير الحرية بديلًا، وهي الرسالة التي لم يفهمها أولئك الحكام بعد، على الرغم من ثورات الربيع التي ضربت بلدانًا عربية عديدة في العقد الحالي، ولو خلع حكّام الرياض براقعهم؛ لأدركوا أن كندا تعجّ اليوم بآلاف المهاجرين العرب الذين أصبحوا مكوّنًا رئيسيًّا في نسيجها الاجتماعي، بعد أن أفردت لهم أرضها وسماءها، وآوتهم من الخوف الذي طاردهم في بلادهم، خصوصًا المهجّرين السوريّين الذين استقبلهم الشعب الكندي بنشيد: "طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع"، فكيف يفرّط عرب المهجر في بلادٍ أعادوا فيها اكتشاف بشريّتهم، وحقوقهم، وحرياتهم؟ وكيف لا يقفون وراء كندا، ويشدّون عضدها ضد أوطانٍ طمستهم، وأقنعتهم بأنهم يأتون في مرتبةٍ دون السلسلة الأولى من دورة الحياة على وجه الأرض، حتى وإن كانت تلك الأوطان أرضهم الأولى التي لم تكن غير "مساقط رؤوسهم" قبل أوان تساقطها، لأن ثمّة "حَجّاجًا" جديدًا، خالف الأول، حين رأى أن أوان قطف الرؤوس ينبغي أن يحلّ قبل أن تينع.
في الانقلاب التاريخي الحديث، تبدّل "المعتصمون" بتبدل جغرافية الحقوق، فصار على العربي أن يستجير بمعتصم أجنبي ضد الروميّ العربي الذي حذر منه المتنبي قديمًا: "وسوى الروم خلف ظهركَ رومٌ"، لكن بفرق آخر هو أن الرومي العربي لم يعد يمشي وراء الظهر، بل أصبح هو القائد الأبله الذي يقود شعبه إلى الهاوية.
في المحصلة، لن يتورّع أحدنا عن مؤازرة امرأة كندا، إنصاف حيدر، في استغاثتها. ومن يدري فلربما فتحت هذه الاستغاثة أفواهنا على استغاثاتٍ مماثلة، ما دام الأمر يتعلق بأبسط حقوق الإنسان في التعبير عن رأيه، بعد أن سدّ طغاتنا كل منافذ الحرّية في وجوهنا.. وقد نوجه استغاثتنا، هذه المرة، إلى "معتصم" جديد، لا يخذل المستجير به، صائحين: "واكنداااه".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.