الصورة المكسورة

الصورة المكسورة

11 اغسطس 2018
+ الخط -
تمتلئ شوارع باريس، هذه الأيام، بالأعلام الملونة بألوان قوس قزح، وهو العلم الذي اعتمده المثليون في العالم، للدلالة على انتمائهم إلى جنسٍ واحد. وأمام ساحة بلدية باريس، تجري الاستعدادات للاحتفال بانطلاق مهرجان "ألعاب المثليين"، وهو مهرجان ترفيهي رياضي، يشارك فيه الجميع، من مثليين وغيرهم، من كل العالم. أما التسمية فهي للتأكيد على احترام المجتمع الفرنسي حق المثليين في الحياة الطبيعية، مثل باقي البشر.
واللافت هو الصور الموزّعة على الجدران المحيطة بساحة البلدية، حيث تظهر الصور، رجلين أو امرأتين في وضع حميم، أو يحضنون أطفالا سعداء، يقرأون لهم الكتب، أو يلعبون معهم لعبة ما، أو يستمعون معهم للموسيقى.. صور لا تختلف على الإطلاق عن الصور التقليدية للعائلات الأوروبية السعيدة التي اعتدنا على رؤيتها في المجلات، وفي الإعلانات التجارية. الفرق هو في كسر الصورة النمطية للعائلة التقليدية، المؤلفة من أب وأم وطفل أو أكثر، لتصبح أبا وأبا وطفلا، أو أمّا وأمّا وطفلا، والجميع يعيشون في سعادة وثبات ونبات.
"هي نهاية العالم"، قالت أمي التي كانت برفقتنا، أختي وأنا، في باريس، وهي تشاهد الصور والاحتفالات والأعلام، وترى البشر يتعاملون مع الحدث والصور، كما لو أنه أمر طبيعي ومعتاد. نبّهتنا جملتها تلك إلى حالة الصدمة التي تصيب ملايين البشر من التغيرات الاجتماعية المدهشة، والخطيرة، في آن، التي طرأت على المجتمعات البشرية، وعلى سيرورة الحياة فيها، إذ كيف سيستوعب من يعتبر العائلة كيانا مقدّسا أن شكل العائلة نفسه قد انكسر إلى الأبد، لتحلّ محله أشكالٌ أخرى متنوّعة ومتعدّدة؟ كيف سيقتنع من يؤمن بأن ثمّة رابطا مقدّسا يربط بين الرجل والمرأة برباط إلهي، وأن الأنثى خلقت لتكون للذكر فقط، والذكر خلق ليطأ الأنثى، أن هذا "التابو" تخترقه يوميا، وبشكل قانوني ومحمي، الدول ومنظمات حقوق الإنسان وغيره! لكم أن تتخيّلوا شكل المحافظين الذين يرون زواج رجل برجل أو امرأة بامرأة في بلديات المدن التي سمحت بزواج المثليين قانونيا.
انتحر سبعيني فرنسي على عتبة كاتدرائية نوتدرام في باريس، قبل أعوام قليلة، احتجاجا على قرار السماح بزواج المثليين. لم يكن اختياره الكاتدرائية عبثا، ففي السماح بزواج المثليين يتم خرق تعاليم الكنسية الكاثوليكية الصارمة، التعاليم التي وقفت صدّا قويا في وجه العلمانية لدى أجيالٍ أصبحت على مشارف نهاية حياتها الآن، ولم تستطع فهم الحريات الفردية المذهلة في مجتمعاتٍ كانت ذات يوم حامية لتعاليم الخالق.
ليس زواج المثليين الطريقة الوحيدة لكسر صورة النمط، فقبله تعوّد المجتمع على فكرة المساكنة وإنجاب الأطفال بدون عقد زواج رسمي، إذ تحمي القوانين الأوروبية، والغربية عموما، حقوق المرأة والأطفال، معتبرةً أن المساكنة طريقة للزواج يتم التصريح عنها في المكاتب المختصة، أما عدد الأمهات العازيات فهو في ازدياد مذهل، إذ ترى نساءٌ كثيرات أن من حقهن إنجاب أطفال من دون زواج أو من أب محدد، فيلجأن إلى التلقيح الصناعي، بعد أخذ النطف الذكرية من بنك خاص. وفي وسع المرأة الراغبة بالأمومة اختيار النطف، حسب جنسية المتبرّع ونوعية الجينات والمورثات التي سيحملها الجنين، مع عدم حقها بمعرفة اسم المتبرّع الذي سيبقى مكتوما للأبد. وطبعا ثمّة شروط للمرأة الراغبة بذلك، منها خلو المرأة من الأمراض، وقدرتها المادية والاجتماعية على تربية طفل ما.
ثمّة نساء أيضا لم يتزوجن، ولا تسمح ظروفهن بالإنجاب المبكّر، فيجمدن بيوضاتهن في بنك خاص بتجميد البويضات. وحين تتاح لهن الظروف، يزرعن بويضاتهن في أرحامهن ثانيةً، ويلقحنها بطرق مختلفة وينجبن طفلا، وهن قد تعدّين السّن الطبيعية للإنجاب بكثير. كل ما سبق يحدث في المجتمعات الغربية، وبشكلٍ قانوني ومنظم، ويتيح للجميع العيش من دون تدخلٍ أو اعتراضٍ من أحد. ومع ذلك تظهر الاحتجاجات المتعدّدة من المحافظين الذين يعتقدون أن ما يحدث خرقٌ لناموس السماء وتعاليم الخالق.
كنت أفكّر، وأنا أشاهد الصور العائلية الكاسرة للنمط، أنه في هذه المجتمعات التي تحمي قوانينها كل أنواع الاختلاف ثمة معترضون ومحتجون كثيرون على ذلك حد الانتحار، فما هي ردود أفعال اللاجئين القادمين من بلادٍ ومجتمعاتٍ مغلقة، وتحاسب على النوايا قبل الأفعال؟ وهل من الصحيح استنكار مخاوفهم وهواجسهم، بما يخصّ ما يمكن أن يكون عليه مستقبل أطفالهم؟ وهل ستستطيع الحكومات المضيفة اسيتعاب هذا الاختلاف الثقافي الخطير، والتعامل معه بما يضمن عدوم حدوث مشكلاتٍ كبرى، أم ينذر ذلك بمشكلاتٍ كبرى قادمة، لا يتخيلها أحد؟
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.