الرئيس الذي تخيّل نفسه إله الآلهة

الرئيس الذي تخيّل نفسه إله الآلهة

02 اغسطس 2018

ماكرون وبنعلا في باريس (18/7/2018/فرانس برس)

+ الخط -
بالأمس القريب، كان إيمانويل ماكرون مرشحاً للرئاسة الفرنسية، وباحتمالات فوز ضئيلة. ينافسه مرشح اليمين، فرنسوا فيون، وهو المفضَّل لدى استطلاعات الرأي. لكن الحظ لعب لعبته، كما سبق ولعب قبلها لصالح ماكرون: وقتها، كشفت "لو كانار أشينيه" عن فساد فرنسوا فيون؛ الذي سجل زوجته في وظيفةٍ وهمية، لتقبض راتباً شهرياً، بلغ مجمل قيمته المليون يورو. بعد تحقيق دقيق، تأكّدت تهمة الصحيفة، فتراجعت حظوظ فرنسوا فيون إلى الرئاسة، لأن الفرنسيين لا يحبون الفاسدين. هكذا، حصدَ ماكرون غالبية الأصوات التي كانت موعودة لفرنسوا فيون. فكانت المعادلة الصعبة أمام الفرنسيين؛ فإما أن يصوتوا لمرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبين، أو للشاب النضر، الزوج الريادي، صاحب الرؤية واللسان الجديدَين، الناقد الحذق للأحزاب التقليدية، اليمينية منها واليسارية. فكانت النتيجة المذهلة: فوز إيمانويل ماكرون بالرئاسة؛ هو الخارج من بطن تجربة غير تقليدية على الإطلاق.
طبعاً، لعب ماكرون على "النزاهة" و"الشفافية" بالقدر الذي تسمح به الحملات الانتخابية. وعندما نصِّب رئيساً، قدم نفسه "الرئيس المثالي"، الذي لن يخطئ، لن يكذب، لن يخفي شيئاً. لا حزب يتشاور معه، أو يأخذ بتوجهاته، ولا أيديولوجيا تعرقل إجراءته. ما سمح له بوصف نفسه "الرئيس الجوبيتيري"، أي المنحدر من كوكب جوبتير، أو المشتري؛ والمعروف، في الميثولوجيا الرومانية، أنه إله الآلهة والبشر، أي كلي القدرة على كل شيء. والمعروف أيضا بلغة البشر أنه الرئيس القادر على كل شيء، هو وحده، من دون جهاز ولا حزب ولا تنظيم. إله يشتغل وحده.. وحده. والفرنسيون لا يحبون أيضاً هذا الصنف من الرؤساء. تاريخهم يساعدهم. هم متمرّدون، بحكم تراثهم الوطني وثورتهم، وقد ناهزت القرنين ونيِّفا.
كان يفترض أن يوم الانتصار الفرنسي في المونديال في سجل حظوظ ماكرون. الخلطة 
السحرية للفريق الفرنسي، المكون بنصفه من أصحاب البشرة السمراء، أنعمت على ماكرون بمزاجٍ شعبي سعيد، أخذ يقارع العنصرية والإسلاموفوبيا، ويتغنّى بالتنوع الفرنسي.. إلخ. وكان يفترض، كما حصل في فوز عالمي سابق عام 1998، عندما نال جاك شيراك، الرئيس الفرنسي يومها، سبع نقاط إضافية في استطلاعات الرأي.. كان يفترض أن ترتفع أسهم ماكرون بدورها.
ولكن يا فرحة ما تمّت. بعد ثلاثة أيام على الإحتفالات الصاخبة بالفوز، توقف كل شيء. لم يكتفِ الحظ بالتوقف عند نِسبة الكارهين للرئيس الشاب، إنما اندلعت فضيحة من العيار العنقودي، خفضت هذه النسبة إلى 68%، فقد نشرت صحيفة لوموند شريطاً، يظهر فيه "مستشار الرئيس"، المدعو ألكسندر بنعلا، وهو يضرب متظاهرين سلميين جاءوا للاحتفال بعيد العمال في الأول من مايو/ أيار الماضي، في أحد أحياء باريس. فانفجرت الأسئلة والشكوك: من أين لإسكندر بنعلا هذه الخوذة والشارة البوليسية على كتفه.. من أعطاه الحق بضرب متظاهرين؟ هل هذه هي وظيفة "مستشار الرئيس"؟ ما هي صلاحياته؟ أين كان البوليس؟ الشرطة...؟ هل أصبحنا دولة ذات شرطة موازية، غير مرئية، وغير رسمية؟ ثم شيئا فشيئاً، تفصح علبة الباندورا عن أسرارها: لقد مُنح المدعو ألكسندر بنعلا امتيازات "إقطاعية": هو "المستشار" الخاص للرئيس، يبلغ السادسة والعشرين عاما، نال درجة ملازم عقيد، راتباً وافراً، سيارة مع سائقها، فضلاً عن ملابس الشرطة وشاراتها التي رأيناه يعتمرها على شريط الفيديو. وهو، بعدما "انتبهت" إدارة القصر الجمهوري إلى "تجاوزاته"، غرّمته بعقوبة تافهة، لم تغير أونصةً من "مهماته". بقي يرافق الرئيس، يلتصق بالرئيس بالأحرى، في جميع المناسبات العامة والخاصة، فكانت ردود الفعل تتناسل، يوماً بعد آخر، مثل مسبحة الرشاش.
ومن الخسائر الجانبية للفضيحة: أن النقاش الفرح خلال الأيام الثلاثة للانتصار الكروي، تحول إلى شماتة اليمين المتطرّف: تحت صرخة "الغزو الإسلامي!"، أطلق هذا اليمين العنان لأفكاره العزيزة: تريدون مهاجرين مواطنين في فرنسا؟ تفرحون بفرنسا المتنوِّعة؟ إليكم اسم ألكسندر الحقيقي ووظيفته: اسمه لحسن بناهليا، مهاجر مسلم، مغربي، يعمل جاسوساً لصالح العرش المغربي.. مثل كل مغربي يصعد إلى مراتب عليا في الدولة. ولكن القليلين التفتوا إلى هذا النوع من التفاعل. الأحزاب التقليدية، اليمينية واليسارية، الوسط والمتطرّفة، كلها رأت في الفضيحة فرصةً للإنقضاض على الذي اعتقد نفسه إله الآلهة، ويحاول الآن أن يعدّل الدستور الفرنسي، بحيث تصبح ألوهيته مكرَّسة في القانون. جميع هذه الأحزاب تمكّنت من إيقاف النقاش البرلماني بشأن مشروع الدستور الجديد، وأدخلت البرلمان ومجلس الشيوخ، ولجانهما المختلفة في طلبات استجواب كبار المسؤولين، من وزير الداخلية إلى رئيس الشرطة إلى قصر الإليزيه.. إلخ. وجميعها تريد الكشف عن حقيقة هذا "الشّبيح" المقرَّب جداً من الرئيس، وكيف منحه صلاحيات تتجاوز حقوق المواطنين ووظيفة الشرطة نفسها.
بقي الرئيس لا مبالياً، او معتدّاً بمثالية بجمهوريته، أو صامتا. وعندما تكلم عن الفضيحة، لعب لعبة الجشعان البعيدين عن مناطق الخطر، وأخذ يزايد على الشفافية :"إذا كان هناك من 
مسؤول عن الموضوع فهو أنا.. لا أحد غيري". ثم اقترب من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فحمَّل الصحافة مسؤولية هذا الزلزال الذي لا أساس له من الحجّة. وبدل أن يفنّد الوقائع الدائرة حول تجاوزات "صديقه"، المستشار المليشياوي، أخذ يدحض الشائعات الرخيصة التي وردت على المواقع الصفراء، ومنها أن ألكسندر بنعلا "هو عشيقه"، ليعطي وزناً، من دون قصد ربما، لما هو أكثر من شائعة.
وخبراء الدستور منقسمون الآن بين من يرى في بنود هذا الدستور حصانةً كاملة للرئيس، تحميه من الامتثال لاستجواب النواب، ومن يرى العكس، أي أن هذا الدستور نفسه يجيز لخصومه استجوابه. والمهم أن فرنسا اليوم تناقش، بأحزابها وصحافتها وإعلامها ورأيها العام، ما يمكن تسميتها ممارسات الرئيس "الجوبيتري" غير القانونية، وغير الأخلاقية، والقديمة أيضاً. وهذا وحده شاهد على أن ماكرون ليس بالرئيس المجدّد، ولا الجديد، إنما اختار أقدم القديم بما يوائم ألوهيته.
هل تلفْلَف الفضيحة؟ أم تمضي نحو مزيد من العناقيد المتساقطة؟ لتعود فتستوي، على ميثاقٍ أو صمت؟ أو "لطخةٍ" في عهد ماكرون، كما في عهود سابقة بغضها الفرنسيون. الأرجح أن الأحزاب الداخلة في المعركة، بيمينها ويسارها، هي التي سوف تقرّر: مقابل خفض صلاحيات الرئيس، مقابل تعهدٍ بالتخلي عن ممارسات الشرطة البديلة السرية والتشبيح الجمهوري.. يُعفى ماكرون. مع بقاء اللطخة.
الإغراء الدائم هو المقارنة بيننا وبينهم. الفرنسيون يُسقطون المرشح الفاسد، ويضعفون أنصاف الآلهة من الرؤساء، فيما نحن نعبد الفاسدين والمجرمين، بممارساتهم التي تتجاوز فضائح الجمهورية الفرنسية بسنوات ضوئية. ولكن، بعد المقارنة المكرَّرة، ثمّة مادة لتأمل سير أعرق الديمقراطيات الغربية، بل واحدة من مخترعيها: إنها، أي الديمقراطية، مثل كل اليوتوبيات البشرية، معرّضة لشرور أولئك البشر أنفسهم.. إنها ليست نهاية مطاف الديمقراطية، ولا بدايتها، إنها حياتها وزمانها وصيرورتها.