قوة الضعف الفلسطينية في معادلة الصفقة الأميركية

قوة الضعف الفلسطينية في معادلة الصفقة الأميركية

08 يوليو 2018
+ الخط -
في علوم الهندسة الميكانيكية، تُحكم السلسلة الحديدية بأضعف حلقاتها البينية. وفي المعارك الحربية متعدّدة الجبهات يخضع التقدّم المدرع في الميدان إلى معدل زحف أقل الوحدات تحقيقاً للمهام الموكلة إليها (المشاة)، وكذلك الأمر في مباريات كرة القدم (خط الدفاع). وينطبق الحال ذاته على النمو إذا كان الترهل سائداً في أحد قطاعات الاقتصاد، وتنطبق هذه القاعدة على مختلف مناحي الحياة اليومية، فما بالك إذا كان الحديث هنا متعلقاً بعالم السياسة الشرق أوسطية، بتعقيدات مدخلاته المنظورة وغير المنظورة؟
يُستعاد ذلك إلى الذهن في هذه الآونة العصيبة، ونحن نمر في خضم مواجهة دبلوماسية حامية الوطيس، قد تبلغ ذروتها في عضون أسابيع قليلة مقبلة، بين طرفين غير متكافئين بكل المعايير المادية، يتكاسران فوق خشبةٍ سياسيةٍ عريضة، باتت تُعرف باسم صفقة القرن، الأول ماثل في الولايات المتحدة بنفوذها الطاغي، وجبروتها الذي لا يحدّه حد، والثاني شاخص في طرفٍ فلسطيني لا يملك مثقال ذرة من القوة والنفوذ، ولا القدرة على الضغط، قياساً بالدولة العظمى الوحيدة،عرّاب هذه الصفقة، ومتعهد إنفاذها بالترغيب والترهيب، جرياً على التقاليد المعمول بها بين القوي والضعيف.

للوهلة الأولى، تبدو إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عازمة، على الرغم من عوائق متفرقة، على وضع خطتها التصفوية هذه موضع التطبيق، اياً كانت وجهة نظر الجانب الفلسطيني. وكان موقفه، وربما أياً كانت آراء الدول العربية المخاطبة بهذا الفتات الخالي من الدسم، إن لم نقل كريه الرائحة، مستندةً في ذلك إلى منطق القوة، لا قوة المنطق، ومعوّلة، في الوقت ذاته، على تبدل الأولويات على الأجندة العربية من جهة أولى، ومراهنة، في الوقت نفسه، على هشاشة الحالة الفلسطينية الراهنة من جهة ثانية، الامر الذي شكل ريح إسناد مواتية لأشرعة السفينة الأميركية، المبحرة بقوة دفع ذاتي هائلة في بحور هذه المنطقة المضطربة.
غير أن إجراء مقاربة أكثر نطاقاً، وأكثر دقةً، لمكوّنات هذا المشهد المتشكل وفق مقاسات المصالح الإسرائيلية الخالصة، يقود إلى الاعتقاد أن ظاهر الأمر ليس كباطنه، وإن ما تبصره عين المراقب عن بعد ليس كما يراه العقل السياسي المدرك حقائق الصورة الكامنة تحت قشرة رقيقة من المظاهر الخادعة. وفوق ذلك، ما يبدو كاستنتاجات أولية ناجزة، أو قابلة للإنجاز بأقل المصاعب، تصبّ في صالح صفقةٍ مثيرةٍ للارتياب، وتحمل على الظن أن الأمر تحصيل حاصل، هي أبعد ما تكون عن واقع سياسي قائم، يملك في الطرف الضعيف جل مفاتيح أقفال هذه الصفقة، متكلاً في ذلك على ما نسميها "قوة الضعف"، التي تبدو هنا، بجلاءٍ منقطع النظير، من عوامل القوة الفلسطينية الفعّالة.
إذ على الرغم من كل ما يعتور الحالة الفلسطينية من ترهل وانقسام، وما تتسم به من محدوديةٍ في القدرة على المناورة، يُمسك أولياء الدم هؤلاء المنزرعون في أرضهم، ومن غير منازع، بشرعية المصادقة على أي حل يخصهم، وفي حولهم منح الغطاء السياسي، أو سحبه، من لدن كل جهةٍ يمكن لها أن تتعاطى بمصائرهم من فوق رؤوسهم. وبالتالي إبطال، أو اعتماد، قانونية أي صك يتعلق بكل شأنٍ من شؤونهم، لا سيما وأن لديهم اليوم العنوان المعترف به إقليمياً ودولياً، وعندهم الأهلية الكاملة لتمثيل أنفسهم بأنفسهم، والتحدث بلسانهم من دون وساطة، في غياب لسان أي مدعٍ آخر قد يقحم نفسه في عشّ دبابير سامة، سبق لها أن دافعت عن خاصيتها الوطنية بصلابة، وقاتلت لانتزاع قرارها المستقل بلا هوادة.
تدرك إسرائيل أن مفارقة قوة الضعف الفلسطينية هذه هي معضلتها الكبرى، وهي معضلةٌ بنيويةٌ غير قابلة للتجاوز، حتى في أسوأ الظروف الذاتية لشعب محاصر، وتعي دولة آخر احتلال على وجه الأرض أن "النعم" الثاوية عميقاً في الوجدان الفلسطيني اليقظ، والموضوعة أمانة بين أيدي مؤسسات منظمة التحرير، هي الشرط الضروري اللازم لإضفاء المشروعية على وجود الدولة القائمة بقوة الحديد والنار، وبالتالي العيش، لا على حد سيفها إلى الأبد، وإنما دولة طبيعيةً تحيا بسلام وأمن في هذه المنطقة التي لا تكفّ براكينها عن قذف الحمم المتطايرة في كل الاتجاهات، وكان آخرها بركان الإرهاب المعولم.
وليس هناك أدنى شك في أن ما أدركته إسرائيل مبكراً، في ما يخص حيوية العنصر الفلسطيني، ولزوميته المطلقة، في إطار التسوية السياسية المنشودة منذ زمن طويل، كانت تدركه الولايات المتحدة لدى دخولها، قبل عقود، على خط ما كان يعرف باسم أزمة الشرق الأوسط، فكيف لها أن تعتقد اليوم أن في مقدرتها تمرير صفقتها الملتبسة من فوق رؤوس القيادة، والحركة الوطنية الفلسطينية، وأن بإمكانها تجاهل إرادة شعب متحد، بكل أطيافه السياسية، إزاء مسعى أميركي بائس، لا يخاطب أهل العقد والربط بكرامة، ولا يعوّل إلا على "معسكر الاعتدال العربي"، الذي إن لم يكن معارضاً لهذه الصفقة، فإنه غير قادر على الحلول محل المعنيين بها، وليس لديه ما يتذرّع به للقبول بما لا يقبل به الفلسطينيون أنفسهم؟
ثم لماذا يتساوق الفلسطينيون مع خطةٍ أميركية تفتقر إلى المغريات السياسية بالكامل، ولا تتضمن أي وعد بالحرية والاستقلال لهم؟. وكيف لفريقٍ دبلوماسي من البيت الأبيض، تعوزه الخبرة والكفاءة، أن يعقد الرهان على من لا يملك (من العرب هذه المرة) لإعطاء من لا يستحق حقوقاً عجز عن أخذها بالقوة، وفي المقدمة منها التخلي عن القدس بجرّة قلم، وشطب قضية اللاجئين هكذا من جدول الأعمال، والإبقاء على غول المستوطنات، وغير ذلك مما أزاحه ترامب عن الطاولة كما يعتقد، فضلاً عما انطوت عليه صفقة القرن من مظالم لا طاقة لأحدٍ على حملها، سواء في فلسطين أو في العالم العربي؟

ولعل السؤال الذي لم يبرح العقل الجمعي الفلسطيني، منذ بدأت عمليات تسريب بعض بنود صفقة القرن هذه؛ هل تحسين شروط العيش في السجن المقام في الهواء الطلق، على امتداد جغرافيا قطاع غزة (وهي غاية هذه الصفقة)، يستحق الأخذ والرد مع هذه الأحبولة المتماهية مع أعتى الأحلام الصهيونية القديمة في شطب شعب فلسطين من الخريطة والذاكرة، من التاريخ والجغرافيا؟ ومن هو القائد الفلسطيني، أو الزعيم العربي، القادر على حمل أوزار هذه الكارثة السياسية، وتبرير شبهة مشاركته في مثل هذه الخطئية التاريخية التي لن تغتفرها أو تتسامح معها الأجيال اللاحقة؟ وهل حتى إقامة دولة محاصرة ومنهكة في غزة تستحق الإقدام على مغامرةٍ كهذه، محكومة بالفشل المسبق؟
إزاء ذلك كله، فإن قوة الضعف الفلسطينية، التي ظلت حاضرة، بهذه الدرجة أو تلك، في مختلف مراحل القضية العربية المركزية، وأبلت أحسن البلاء في الدفاع عن ديمومة هذه القضية وحفظها، هي اليوم أشد حضوراً من ذي قبل، وأكثر فاعلية مما كانت عليه في أي وقت مضى، ليس لأن الفلسطينيين باتوا يملكون أوراقاً جديدة، أو تيسّرت لهم موارد أو تحالفات أفضل مما كان عليه الحال بالأمس القريب، بل لأن ما كان صحيحاً في السابق صحيح الآن بالكامل، وإن الروافع القليلة التي أسس المناضلون بفعلها مواقف تفاوضية هجومية، وفي الجوهر منها قوة الضعف هذه، لا تزال روافع صالحةً للاستخدام إلى أجل غير معلوم، وقابلة للاستثمار بكثافة وفاعلية في هذه اللحظة السياسية المواتية، للبناء عليها أكثر فأكثر، ومن ثمّة تقويض هذه الخطة الأميركية الساذجة، وإعادة اللعبة إلى مربعها الأول، بين احتلال غاشم وشعب جدير بنيل شرف الاستقلال والحرية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي