قيادة السعوديات السيارة.. رؤية سوسيوأنثروبولوجية

قيادة السعوديات السيارة.. رؤية سوسيوأنثروبولوجية

08 يوليو 2018
+ الخط -
تحمل قيادة السيارة رمزية جسدية وثقافية واجتماعية، فالقيادة تعني القدرة على التصرف والحركة، واتخاذ القرار، بدايةً من مغادرة النقطة الثابتة، نقطة الانطلاق وصولا إلى نقطة أخرى، والقيادة تعني مغادرة حالة السكون، وتغير موقعك بالنسبة للآخرين، وتتضمن أيضا تحويل الاتجاه وتغيره، وربما تؤشر على تغير الأحوال عبر اختيار طرق ومسارات جديدة، وربما يرتبط هذا كله بواقع النساء السعوديات، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، لذا لا مكان للاستغراب، حين نرى فرحة السعوديات العارمة، وهن خلف المقود. وهنا ليس مفيدا التقليل من قيمة هذا القرار وأثره، أو تسفيهه. على العكس، هناك حاجة إلى رؤية الحدث، في إطار سوسيو أنثروبولوجي، لفهمه وتقييمه بشكل موضوعي على قدر الممكن، من دون تبسيط للخطوة، أو تعالٍ عليها، أو تضخيم ومتاجرة بها، وتوظيفها دعائيا.
منعت السعوديات عقوداً من قيادة السيارة، وقد تأسس هذا الحظر واستقر، بناء على بنية فكرية وثقافية تشكلت من مصدرين، دعاوى دينية رجعية وحس اجتماعي ينتمي إلى زمن القبيلة التي تريد تقييد نسائها، بل وفرض الوصاية على المجتمع ككل. وبالاستعانة بمدرسة التحليل الأنثروبولوجي السياسي، يمكن القول إن المملكة السعودية مثلت، في بدايتها، نموذجا للقبيلة التي تمثل دولةً على حد تعبير إيفانز بريتشارد، وقد استفاد النظام السياسي السعودي من تشابك الهيمنة الدينية القبلية في استدامة حكمه، منذ تأسيس المملكة من خلال تحالف آل سعود مع الوهابية، يلي ذلك تشكل بناء اقتصادي، ساهم في تهميش النساء عموما، واحتجاب مشاركتهن الاقتصادية، حسب دراسات أنثروبولوجية ميدانية، فقد تراجعت مساهمة المرأة السعودية في النشاط الزراعي والمهن التقليدية منذ بداية الستينيات، خصوصا مع شمول مظلة الرفاه أغلب قطاعات المجتمع.

ومع هيمنة أفكار السلفية الرسمية التي كانت تصدّرها المملكة وتحتضنها، وظهور تيار سلفي خارج الدولة، أُبعدت النساء عن المجال العام، كما ساهمت هجرة أغلب سكان القرى إلى المدن، والتحاق أغلبهم بوظائف في جهاز الدولة، إلى احتجاب النساء من سوق العمل، وبالتالي تحديد حركة المرأة. وحين عرفت السعودية شبكات طرق ومواصلات حديثة منذ منتصف الخمسينيات، وامتلكت الأسرة الواحدة أكثر من سيارة، لم تجد السعوديات لهن نصيبا في الحق في التنقل بمفردهن. واهتمت المملكة بتعليم النساء منذ نهاية الخمسينيات، إلا أن ذلك لم ينعكس على أوضاع النساء وحقوقهن. ويكمل هذا الموقف المحافظ تجاه قضايا النساء صورة المملكة الرجعية سياسيا وفكريا، والتي تمثلت في اتخاذ مواقف محافظة، ليس وحسب على مستوى المعالجات الاجتماعية داخلياً، ولكن على المستوى العربي، سبق وناوشت النظم التقدمية في المنطقة، وفي مقدمتها النظام الناصري.
بمقاربة أنثروبولوجية فيزيقية اجتماعية، يمثل حظر قيادة النساء للسيارة، في أحد جوانبه، حظرا على الجسد الاجتماعي والسياسي، بوصف أن النساء نصف هذا المجتمع، وأن الهيمنة والسيطرة والتحكّم في حركاتها يسهل عملية الضبط المجتمعي، فالتحكم بأجساد النساء هنا ليس منفصلا عن التحكم في جسد المجتمع ككل، وهو تجسيد لعلاقات الهيمنة والسلطة.
والجسد هو الجوهر المادي للإنسان. ومن خلاله، يمكن الاتصال الشفهي والبصري، وانتقال الأجساد وحركتها أو تحديد إقامتها وعقابها هو أحد أدوات تحكّم السلطة في الإنسان. وإذ كان الحق في قيادة السيارة غير مكفول للنساء، فهذا يعني تقييدا صريحا لمشاركتها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وإنه غير مرغوب في وجود فاعل لها.
بمقاربة اقتصادية، إطلاق حرية حركة الإنسان إطاراً لتسهيل العمل، التسوق، والأنشطة الاقتصادية كافة، واجتماعيا حرية الحركة، ومنها الحق في التنقل تسهل الاجتماع البشري عموما، بما يحمله من فاعليةٍ وتأثير على مستوياتٍ متعدّدة، لذا قيادة النساء للسيارة نقطة وصل بين محطات اجتماعية، لتطور وضع النساء، وزيادة مشاركتهن في مجالات عدة، وفى مقدمتها النشاط الاقتصادي الذي يُراد أن يتم توسعيه، عبر الاستفادة من مساهمات النساء، فوجودها يخفض من سعر العمل، ويساعد في سعودة العمالة، كما أنه يساهم في مخطط إحلال العمل مكان النشاط والريع المعتمد على الثروة البترولية، ويخفض، في الوقت نفسه، نسبة الإعالة، ما يسهل لبرلة الاقتصاد.
ثقافيا، يمكن تحليل تغير موقف السعودية من قيادة السيارة، انطلاقاً من رؤية عالم الأنثروبولوجيا فرانس بواز، والذي يرى أن كل تقدّم يحمل داخله بذورا لتغير. وقد شهدت المملكة تغيرا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، ساهمت فيه عوامل داخلية وخارجية، وشكل هذا التغير أداة ضغطٍ كانت محصلته إنتاج الاهتمام الرسمي بأوضاع النساء، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة، والتي يعتبر جزء منها شكلانيا، وغالبا ستشهد المملكة خطواتٍ تالية، ليس لأن السلطة يقودها تقدميون. ولكن لأن مجمل الظروف ستفرض عملية التغير، لم يعد في إمكان السلطة اليوم تحدي كل الآمال في التغيير، أو تجاهلها، فرأت من الأفضل استثمار بعضها، وهذا ينتمي إلى فكرة إيفانز بريتشارد عن أساس النظام السياسي، وهو إيجاد مؤيدين للسلطة، عبر نموذج "الولي والتابعين"، وسيدفع هذا القرار تأييد قطاعاتٍ من النساء لمتخذي القرار.
شكلت المعرفة وسهولة الاتصال أنماطا ثقافية جديدة لدى أجيال متتالية من السعوديين، عبرت، منذ التسعينيات، في أشكال سياسية وثقافية، عن رغبتها في التغيير، فكيف يمكن أن تسمح المملكة بابتعاث بناتها للتعلم في الخارج، بينما تحظر عليهن قيادة السيارة. لقد أوجد هذا الوضع المرتبك ثقافة جديدة، ثقافة ضمنية، تتجاوز الثقافة الرسمية الظاهرية الشكلانية التي تبناها نظام الحكم منذ تأسيسه. وهذه الثقافة الجديدة نسبيا هي أقرب إلى تمثيل التنوع بين أفراد المجتمع، ويمثل أكثر الأجيال الجديدة من الشبان والشابات، الذين يطالبون بتغير البناء الاجتماعي. وسبق وأن تمظهرت أصوات هذا الجيل، حين اصطف مع جيل وسيط كافح من أجل إحداث تغيرات وإصلاحات على المستويين، الاجتماعي والسياسي. وطالبت السعوديات بمساواتهن بالرجال، وإقرار حقوقهن الطبيعية في التصرّف في الممتلكات، واتخاذ قرار الزواج والطلاق والسفر من دون وصاية، وغيرها من الحقوق المنتهكة، والتي تعتبر انتقاصا من أن المرأة راشدة، طالما بلغت السن القانونية، وإنها تستطيع قيادة أمور حياتها، وليس وحسب قيادة السيارة.
شكلت هذه "الثقافة موجهةً للسلوك"، بتعبير عالم الأنثروبولوجيا الثقافية كلاكهون، والثقافة هنا ترتبط بنمط الحياة الظاهرية والضمنية معا، فسهل الاتصال، وتعدّدت مصادره التي لم تعد تحتاج إلى ترحال، وذلك زحزح الثقافة المحافظة، خصوصا وأن المجتمع السعودي منخرط في عمليات اتصالية متعددة، منها الترحال والسفر لأغراض السياحة والتعلم والعمل، ومنها الاتصال غير المباشر بالانخراط في عمليات اتصال إلكتروني، بل إن السعوديين من أكثر الشعوب العربية اتصالا بموقع "تويتر"، وهو مثال دال، بل إن الحملات والموضوعات محل النقاش، فيما يخص المرأة، ساهم المجتمع السيبري في إبرازها، منها الحملات المطالبة بالحق في قيادة السيارة، والتصويت والانتخاب والترشح في الهيئات السياسية، وحق النساء في تولي المناصب التنفيذية والقيادية.
وإذا كانت الثقافة تنتقل عبر التعلم، وتتناقل الأجيال المعارف والخبرات وأنماط السلوك، فمن شأن ذلك إحداث تراكم كمي، يدفع في اتجاه تغير كيفي مستقبلا، حتى لو طال الزمن، وإن كان هناك ثبات ثقافي نسبي في السعودية، فذلك لا يلغي القابلية للتغير الثقافي.

وانطلاقا من رؤية مالينوفسكي، أبرز رواد المدرسة الوظيفية، فإن الثقافة "كتلة حية وكيان وظيفي كلي متكامل، لا يمكن فهم أي جزء إلا في ضوء علاقته بالكل". وترتبط الثقافة باحتياجات الإنسان في أثناء تشكلها وأدائها وظيفتها، تحدث مالينوفسكي عن حاجاتٍ، ومنها الحاجة إلى الحركة والنمو والصحة والغذاء والتناسل، والحاجة إلى الحركة ترتبط بقيادة السيارة، وهو حق أصيل للإنسان، طبقا للمتعارف عليه في مبادئ حقوق الإنسان، كما أن الحاجة للاجتماع البشري لا يمكن أن تتم من دون الحق في التنقل والحركة، والذي يسهل مختلف أوجه النشاط الإنساني، بداية من التزاور العائلي، وصولا إلى الأنشطة الاقتصادية.
لم يعد في وسع السعودية الانعزال اليوم، وقد تضافرت الضغوط الداخلية مع الضغوط الخارجية في دفع عملية التغيير، وشكلت البنية المعرفية والثقافية سببا ووسيطا للتغير أيضا، وإن كانت تحاول المملكة تعطيل التغير، أو مواجهته، أو الالتفاف حوله، فإنها لن تستطيع نفيه كليا، وإن توهم بعضهم أن تثبت بعض الأوضاع داخليا أو خارجيا يوقف عجلة التغير فإنه واهم، فإذا عزلت الآخرين ومنعت تقدمهم لا يعني ذلك تقدّمك أنت، فنفي الآخر لا يعني إثبات الذات.
التغير الثقافي هنا، في أحد جوانبه، نوع من التكيف، دفعا لخطر العزلة، ومحاولة لإيجاد توازن ممكن في ظل عملية الاتصال. وطالما توفرت أسس التغير الثقافي، المحكومة بعناصر، منها درجة التباين والاختلاف وظروف الاتصال، ووسطاء الاتصال، وأدواته، فإن التغير سيستمر ليشكل عملية تتصف بالصيرورة.
تحاول السعودية الآن، وعبر القضايا النسوية، التغير والاندماج والاستجابة للمؤثرات، بطريقةٍ تحافظ على النمط القديم والبنية الثقافية والسياسية والاجتماعية القائمة، ولا تنفيها.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".