من خان الثورة السورية؟

من خان الثورة السورية؟

06 يوليو 2018
+ الخط -
ينقل الصحافي الأميركي، ديفيد أغناطيوس، في مقال له نشر في صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي، عن معارض سوري اتهامه الولايات المتحدة بـ"الخيانة"، وذلك لسماحها لقوات النظام السوري، مدعومة بغطاء جوي روسي كثيف، بشن هجوم واسع على الجنوب، والجنوب الغربي من البلاد، الخاضعيْن لسيطرة المعارضة إلى حد كبير، على الأقل إلى الآن. وحسب مصادر المعارضة السورية، أبلغتهم واشنطن، منتصف الشهر الماضي، أنها لن تتدخل لحمايتهم في الجنوب، في حال تقدمت قوات النظام إلى مناطقهم، على الرغم من تحذير قوي كانت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد وجهته، شهر مايو/ أيار الماضي، لنظام بشار الأسد، بأنها ستتخذ "إجراءات حازمة ومتناسبة" للحفاظ على "اتفاق خفض التصعيد" في الجنوب السوري، وتحديدا في منطقة درعا على الحدود الأردنية. وكانت الولايات المتحدة وروسيا والأردن قد توصلوا، العام الماضي، إلى اتفاق لشمل مدينة درعا ضمن منطقة "خفض التصعيد" في الجنوب، وذلك في استكمال اتفاق إنشاء أربع مناطق لـ"خفض التصعيد" على مستوى سورية، اتفقت عليها روسيا وتركيا وإيران العام الماضي: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. ومعلوم كيف ألغى النظام السوري، بدعم وغطاء روسيين، مناطق خفض التصعيد واحدة واحدة، كان آخرها الغوطة الشرقية، شهر أبريل/ نيسان الماضي، بحيث لم يبق الآن إلا المنطقة الجنوبية، وامتداداتها في الجنوب الغربي، على الحدود مع فلسطين المحتلة.
أكتب هذه السطور في ساعات الفجر الأولى ليوم الخميس (5/7) من شمال الأردن، الذي 
أزور الآن، وتحديدا مدينة إربد، من على بعد حوالي 35 كيلومترا عن مدينة درعا السورية، و45 كيلومترا عن بلدة طفس في ريفها. لا أسمع فحسب صوت القصف الذي تتعدّد أنواعه ومصادر أسلحته، بل يهتز البيت الذي أقيم فيه مرات ومرات في الساعة الواحدة من شدة القصف، ويرتج زجاجه، على الرغم من المسافة البعيدة نسبيا عن مواقع العمليات العسكرية. ولك الآن أن تتخيل نوعية (وحجم) العدوان الوحشي الذي يشنه النظام بغطاء جوي روسي، وبدعم من قوات إيرانية ومليشيات لبنانية وعراقية وغيرهما، على مئات آلاف من المدنيين السوريين العزّل، وهو ما دفع عشرات الآلاف منهم إلى النزوح نحو الأردن الذي أغلق حدوده أمامهم بذريعة عجزه عن استيعاب مزيد من اللاجئين. لا يمكن لمن يملك ذرة من ضمير وموضوعية أن يلوم المدنيين السوريين العزّل، في نزوحهم عن أرضهم طلبا لأمن بعيد المنال، وكرامة أصبحت مستباحة، فمجازر نظام الأسد وحلفائه في الغوطة الشرقية وحلب، وغيرهما، ما زالت حية وحاضرة بقوة.
وعودة إلى مسألة "الخيانة" الأميركية التي يتحدث عنها بعض زعماء المعارضة السورية، وهي تحمل كثيرا من الصِّدْقِيَّةِ. منذ انطلقت الثورة السورية عام 2011، ذهبت كل الوعود والتطمينات الأميركية لقيادات المعارضة أدراج الرياح. لم يكن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أشرف من ترامب. توعد النظام إن تجرأ واستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، فكان أن استخدمه الأسد عام 2012، فمسح أوباما "خطه الأحمر"، وقايض دماء السوريين ببعض السلاح الكيميائي حماية لإسرائيل. ثمَّ إنه وعد بعض فصائلهم المقاتلة بالتسليح والدعم اللوجستي، لكنه حرمهم من الأسلحة الفتاكة، وتركهم حمى مستباحا لطيران النظام، ذلك أنه رفض تزويدهم بصواريخ مضادّة للطيران الحربي. ثمّ كانت الطعنة الأخرى التي وجهها لهم بدعم الانفصاليين الأكراد على حسابهم بذريعة محاربة "داعش"، وصولا إلى التدخل العسكري الروسي في سورية، عام 2015، الذي اكتفى أوباما حياله بالتنديد.
أما ترامب، وعلى الرغم من أنه أقدم مرتين على قصفٍ محدود لقوات النظام السوري، بعد ثبوت استخدامه غازات سامة، في ريف حمص الشرقي العام الماضي، وفي الغوطة الشرقية هذا العام، إلا أنه أوقف برنامج تدريب بعض الفصائل السورية المقاتلة وتسليحها، وعزّز من دعم الانفصاليين الأكراد. الأخطر من ذلك ما تسرب، في الأسبوعين الأخيرين، عن أنباء اتفاق أميركي – روسي – إسرائيلي، يسمح للأسد بالبقاء رئيسا، وهو ما تريده روسيا، مقابل أن تلجم الأخيرة النفوذ الإيراني في سورية، وهو ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل. لا تأخذ هذه المقايضة المدنسة في اعتبارها تضحيات السوريين، والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحقهم، والتي لا تتوقف عند قتل مئات الآلاف من شعبه، ولجوء ونزوح أكثر من اثني عشر مليونا منهم، وتدمير معظم البلد، وتشظيته إلى مناطق نفوذٍ، تتصارع عليها قوى دولية وإقليمية، ومليشيات طائفية، وعصابات محلية. لا يهم هذا كله الولايات المتحدة، المهم الحفاظ على أمن إسرائيل، وهو ما تكشفه البنود المسرّبة للاتفاق المفترض، والتي تتضمن إبعاد إيران ومليشياتها مسافة ثمانين كيلومترا عن الحدود مع فلسطين المحتلة، والسماح لإسرائيل بحرية استهداف أي تهديد إيراني مفترض داخل الأراضي السورية. وفي المقابل، يبقى الأسد على رأس النظام، ويسمح له باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية على الحدود مع الأردن، وعلى المنطقة الجنوبية الغربية على الحدود مع فلسطين المحتلة.
ما سبق كله أمور تؤهل الولايات المتحدة لتكون شريكا لنظام الأسد والروس والإيرانيين، والمليشيات التابعة لهم، في الجريمة بحق سورية وشعبها. ولكن لا ينبغي لهذا أن ينسينا جرائم أخرى ارتكبها قادة كثيرون في المعارضة السورية، وفصائلها المقاتلة، بحق ثورتهم. تشرذمهم منذ اليوم الأول وتنافسهم على القيادة. تصارعهم على مناطق النفوذ والوجهة الإيديولوجية 
للثورة. ورهن كثيرين منهم قراراتهم لعواصم عربية وإقليمية ودولية لا تريد الخير لسورية، ولا لثورتها. الثورة السورية موءودة، ومتآمر عليها في آن. الوائِدُ ليس أجنبيا، بل هو من أهل القضية والدار، أما المتآمر فقد يكون أجنبيا، وقد يكون من أبناء الدار. ظنَّ كثير من المعارضة أن تزلّفهم إلى الولايات المتحدة هو مفتاح نجاح الثورة، وظن بعض منهم أن كسب قلب تل أبيب أقصر الطرق لضمان الدعم الأميركي. لم يكن هذا ولا ذاك هو الطريق، وهذا ما أثبتته الأيام. ما زلت أذكر ذلك القيادي السوري المعارض الذي زارنا عام 2011 في الولايات المتحدة، ليحدّثنا بتباه عن اجتماع عقده في وزارة الخارجية الأميركية بشأن الوضع في سورية. لم يتردد ذلك المعارض في البوح لنا "إدراكهم" (أي بعض المعارضة) أن ما تريده الولايات المتحدة هو ضمان أمن إسرائيل، وَصَدَمَنا بالقول: تريد إسرائيل الثمن في الجولان، ونحن مستعدون لهذا الثمن من أجل نجاح الثورة السورية. ذلك لقاء عليه شهود، وأذكر يومها أني قلت للمعارض العتيد: الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية، ولا هي تدار بهذه الطريقة، ونظام ضعيف يحكمه الأسد خير لإسرائيل من معارضةٍ لا يُعْرَفُ كنهها ولم تختبر.
على أي حال، ذلك زمن انقضى. لم يكن جُلُّ المعارضة السورية ممن راموا المتاجرة بوطنهم وقضيتهم، ورهنهما لتجاذبات إقليمية للتخلص من الأسد، لكن أولئك القلة أوهنوا الثورة، وخذلوا، بل وخانوا الشعب السوري العظيم الذي سطر واحدةً من أعظم ملاحم التمرّد على طاغية دموي، وحلفائه المتوحشين، في العصر الحديث. وحتى انتصار الثورة، نقول: لك الله، يا سورية، وذلك بعد أن تخلى عنك القريب قبل البعيد.