سعاد قطناني تكسر الصورة

سعاد قطناني تكسر الصورة

06 يوليو 2018
+ الخط -
لا يجوز لك، بعد أن تغادر وظيفتَك في مؤسسةٍ أو منشأةٍ، عامةٍ أو خاصةٍ، التعريضَ بها. هذا عرفٌ، أو بروتوكولٌ، أو تفاهمٌ مكتوبٌ وموقّعٌ أحيانا، وقد تأخذ المسألة، في حالاتٍ، منحىً إجرائيا قانونيا. .. تعرف الإعلامية الزميلة، سعاد قطناني، هذا الأمر. وأجابت على سؤالٍ في خصوصه، في محاورةٍ معها، في برنامج "لم الشمل" في قناة تلفزيون سوريا التي تعمل فيها، في فقرةٍ أضاءت على كتابها "B B C انكسار الصورة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018). وسوّغت، في جوابها، نشر كتابها هذا بأن ما تضمّنه، عن عملها عاميْن في تلفزيون "بي بي سي عربي" كانت قد أبلغت به المسؤولين في المحطة التلفزيونية الشهيرة، مرّاتٍ، وبعثت رسائل إليهم عن انتقاداتها ومؤاخذاتها المهنية والتحريرية، وأيضا تلك الخاصة ببيئة العمل. وقالت سعاد أيضاً إن أداء "بي بي سي عربي"، كما عرفته من الداخل، يُخالف تماما ما قامت عليه الهيئة البريطانية العتيدة من تقاليد إعلاميةٍ، ومنها الموضوعية والحياد. وبذلك، يبدو أن نشر الزميلة كتابَها يرمي إلى كشف زيف ادّعاء القناة التلفزيونية هذه عن موضوعيتها وحيادها، فيما هي منحازةٌ تماما مع النظام السوري، ومهادنةٌ إسرائيل. 

تُرى، هل ما قالته صاحبة الكتاب لتسويغ ما صنعتْه مقنع؟ جوابي: ربما، أو لا أعرف تماما. .. وإنْ أميلُ إلى أنه كان في وسعها أن تبني كتابَها على غير ما جاء عليه، يومياتٍ متتابعة، تحتشد فيها تفاصيل التفاصيل، الجزئية أحيانا كثيرة، ما أضاع الأفكار المركزية والجوهرية بين وقائع مهمةٍ وأخرى غير مهمة، في 382 صفحة (غير الملاحق). ومع أهمية التوازي الحاضر في هذه اليوميات بين الذاتي الخاص والعملي العام، أي بين ما يتصل بالكاتبة في عيشها وإقامتها وحيدةً في لندن وما يتصل بأداء تلفزيون "بي بي سي عربي" وأجواء العمل الوظيفي فيه، مع أهمية ذلك، فإن قيمةً مضافةً، إلى قيمته المتحقّقة في هيئته هذه، كان سيُحرزها لو أن سعاد قطناني أفادت من يومياتها المدوّنة، وصاغت خلاصاتٍ وأفكارا معمّقةً، فأنجزته كتابا مختلف المبنى والإيقاع، مستوحىً من تجربة عملها عامين، محرّرة أخبارٍ في هذا التلفزيون، وهو العمل الذي ارتحلت إليه وحيدةً، من مُقامها في الإمارات مع أسرتها، مدفوعةً بتحقيق طموحٍ قويٍّ لديها إلى أن تتقدّم مهنيا ووظيفيا، ولكن حساب السرايا لم يأت على حساب القرايا، كما يقول مثلٌ عربي غير ذائع، أحسبُه يوجِز المنطوق العام للفصول الخمسة للكتاب الذي نجح في تظهير صورةٍ مكسورةٍ ل"بي بي سي عربي".
أكبر كذبةٍ أن "بي بي سي عربي" مؤسسةٌ تحافظ على الحيادية والموضوعية. .. بهذه العبارة تفتتح سعاد قطناني ما دوّنته في اليوم الأول من إبريل/ نيسان 2016، قبل نحو شهرين من حسمِها قرار الاستقالة من عملها الذي صارت، في أثناء أسابيعه الأخيرة، أكثر شعورا بأنها ثقيلةٌ جدّا في المكان. وتكتب، في موضعٍ آخر، إنها، في بداية مجيئها إلى لندن، كانت تقاوم الهزيمة، وتعتبر البقاء مقاومةً، والصمودَ مقاومةً، لكنها اكتشفت أن الكتابة وتدوينها اليوميات هما الوسيلة الوحيدة التي تساعدها على الاحتمال والبقاء. كأن ثمّة نزوعا شهرزاديا في لاوعي صاحبة الكتاب، وهي تدوّن، باسترسالٍ حر، وبتداعٍ طلق، عن كل شيء تقريبا، عن هذا الموظف وذاك، عن هذه الزميلة وتلك، وعن ذلك الخبر وهذا التقرير. ويتوزّع هذا كله بين شعورٍ، في أولى صفحات الكتاب، بالسعادة والفرح بالمكان الجديد، عندما تدخل الكاتبة مبنى "بي بي سي"، "متفائلةً بما سيكون عليه المستقبل"، وشعورٍ، في خواتيمِه، بأن "لا مهنية ولا موضوعية ولا حياد ولا تقدّم، لا شيء سوى حروب تافهة، تستنزف قدراتك، وتسعى إلى قتل الروح، وكل شيء جيد فيك".
تُحارب سعاد قطناني ما تُعايِنُه من انتهازيةٍ ومحسوبيةٍ ومحاباةٍ، وولاءٍ لأنظمةٍ مستبدةٍ، وقلة مهنيةٍ، وتجاوزاتٍ خطيرةٍ، ومعايير مزدوجةٍ بدون مداورةٍ أو أي خجل، وأخطاء كارثية (سيما في الموضوع السوري)، تُحارب ما وسعها الحرب، وتُحاور المسؤولين، وتكتب إليهم، وتقابلهم، ولا تخفي شيئا. وفي النهاية تغادر، بعد أن تيّقنت من انعدام الأفق، وبعد أن ظل كل ما يدور يمزّق روحَها. ثم تنشر كتابها، المثير عن حق، ولم تغفل فيه الإتيان على الكراسي التي تسبّب آلاما في الظهر والرقبة، ولا على الفئران في المكان، فتُعرّفنا سعاد بأن هذه الفئران وحدَها القاسم المشترك العادل في جميع طوابق مبنى "بي بي سي"، حيث لا فرق إطلاقا في انتشارها بين الإنكليز والأجانب.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".