بيبي مريم.. وبيبي عائشة

بيبي مريم.. وبيبي عائشة

05 يوليو 2018

قبر بيبي مريم في قلهات في سلطنة عمان (15/12/2009/Getty)

+ الخط -
أمضيت في فبراير/ شباط من العام 2017 يوماً في قلهات، أقدم مدينة عُمانية على الإطلاق، كان هو السحر نفسه. يومها، حظيت بما رأيت، برفقة عائشة المجعلي، وهي فتاة عمانية رفيعة الثقافة، وشديدة الاعتزاز بتاريخ عُمان المهيب. ولذلك اقترحت علي أن أدشن زيارتي مدينتها الساحلية الجميلة، صور العفية، بالاطلاع على ما تبقى من آثار أول عاصمة عمانية، والتي وصفتها منظمة اليونسكو، قبل أيام، وهي تضمها إلى قائمة التراث العالمي، بأنها تمثل "شهادة تاريخية فريدة" عن الصلات بين شرق شبه الجزيرة العربية وباقي العالم.
كنت قد قرأت قليلاً عن حضارة قلهات التي كنت أحسب أنها اندثرت، ولم أكن أعرف أن شواهدها ما زالت باقية، عصية على تصاريف الزمن وتدابيره القاسية.
كانت عائشة التي تعرف تفاصيل المنطقة جيداً، تنتقل من راهن الجغرافيا وتضاريسها شديدة التنوّع إلى عمق التاريخ البعيد، بتعدّديته المتتالية حقبة بعد حقبة. تخلط، في حديثها الجميل، ما بين المعلومات التاريخية والقصص الشعبية، وهي تشير إلى صخرةٍ هنا أو نتوءٍ هناك بلغة العشاق وثقة العارفين. كان لكل سؤال مني جوابا لدى عائشة التي أخذتني بسيارتها إلى أعلى نقطة في قلهات، عبر طرقٍ وعرة، بدت للفتاة الشجاعة كأنها فسحة في سهوب البساطة واليسر.
تبدو المدينة لمن يطّلع عليها من علو كأنها مدرج كبير جدا اختفت ثلاثة أرباعه تحت المياه، وبقي الربع الأخير شاهدا على حضارةٍ عظيمةٍ، تتناسب والقيمة التاريخية التي تحتفظ بها سواحل السلطنة العمانية حتى الآن.
حكت لي رفيقة الرحلة الجميلة، وهي تناولني فنجاناً من قهوة صنعتها بنفسها، وأحضرتها معها، حكاية بيبي مريم، كما يتوارثها أهالي صور وقلهات شفاهيا عبر مئات السنين، بشجن يليق بجلال الاسم الغامض، وأسراره المسكوت عنها في التاريخ المدوّن. كنا نجلس في ظلال قلعة بيبي مريم، المشيدة بهيئة مسجد مربع صغير نسبيا، وقد تهدّمت أجزاء كثيرة منه، وتعلوه قبةٌ تساقطت بعض حجارتها، فأصبح المسجد مكشوف السقف، ما جعل ضوء الشمس يتسلل إليه، تاركا سحره المتكون عبر الظلال المرسومة على الجدران.
أضافت النقوش التي بدت لي مغولية الطابع على سحر الظلال سحرا إضافيا، جعل من حديث عائشة عن المكان وقصته أسطورة حقيقية، حتى كدت أرى شخصياتها تشاركنا الجلسة العميقة، تحت هيمنة التاريخ وسطوة الجبال المحيطة بنا من كل صوب، في ذلك اليوم المشمس.
أكملت لي رفيقتي حكاياتها المبهرة، حيث توالدت من بعضها بعضا بأسلوب شهرزادي أنيق، حتى وصلت إلى ثلاثة قبور، تحيط بالمسجد الذي لم يكن أحدٌ قد تأكد أنه بني من الأساس مسجدا، أم أنه تحول إليه، عندما وصل الإسلام إلى المكان الذي يسبق ظهوره بزمن بعيد، يقدره مؤرخون إلى ما قبل الميلاد بما يزيد عن الألف عام. وحظيت المنطقة باهتمام رحالة ومؤرخين عرب وعالميين كثيرين، أشهرهم ابن بطوطة وماركو بولو، لكن أحدا منهم لم يكتب عنها ما يروي ظمأ من يزور المكان، ويعيش غموضه الموزع ما بين صخور وقواقع بحرية استقرت في ذلك العلو، بعيدا عن الماء. كنا قد تيقنا، من دون دليل سوى الإحساس المشترك الذي داهمنا ونحن نقف عند رأس القبر المنفرد في إحدى جهات بيبي مريم، أنه قبرها. وفي ما يشبه الحلم، قرأت الفاتحة بصوتٍ خفيضٍ، مستحضرة واحدة من القصص المقترحة، لتكون هي القصة الحقيقية لبيبي مريم، اتكاء على الشجن الذي ملأ صوت عائشة وهي تسردها لي وكأنها تسرد حكايتها هي. تابعنا الرحلة في تفاصيل قلهات لاحقا، حتى مغيب الشمس ما بين ماء وجبل ورمل وبشر، كنا نلتقيهم عبر هذا كله، وكأننا نستحضرهم من بين شقوق التاريخ العميق، لتكتمل فصول الحكاية التي لم تكتمل.
عندما أعلنت اليونسكو قبل أيام إدراج قلهات في قائمتها العالمية، تذكرت ذلك اليوم المنقوص بشغف الاكتشاف على لسان بيبي عائشة.

دلالات

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.