وزراء ما بعد الثورة في تونس

وزراء ما بعد الثورة في تونس

31 يوليو 2018
+ الخط -
لم يكن الوزراء طوال حكم نظام الحزب الواحد في تونس، زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، على علاقة مباشرة بجمهور الناس. كانوا في غالبهم من التكنوقراط وأصحاب الولاءات القريبين من دوائر السلطة المركزية، المتنفذة في كل مفاصل الدولة، فكان الوزير، في تلك الفترة، أقرب إلى تقني سلطةٍ يتولى الإشراف على تنفيذ القرارات التي تصدر عن أعلى هرم السلطة، ويستفيد من موقعه بأشكال مختلفة، ولكن طبيعة النظام السياسي تجعله في منأى تقريبا عن المحاسبة الشعبية، فهو لا يتعرّض لانتقاد الإعلام الموالي للحكم، كما لا يخضع للاستجواب أمام مجلس النواب ذي اللون الواحد. ولم يكن مطلوبا منه سوى الحرص على نيل رضا رئيس الدولة الذي جاء به إلى موقعه، وهو القادر على إزاحته من منصبه في أي وقت، من دون مبرّرات واضحة أو حتى بيان يفسر للشعب سبب التغييرات الحكومية. ولذا، لم يكن غريبا أن 23 سنة من حكم بن علي لم تعرف سوى ثلاثة رؤساء حكومات جاؤوا في أوقات متباعدة، بل وحقق آخر رئيس حكومة قبل الثورة، محمد الغنوشي، رقما قياسيا، من حيث استمراره في منصبه أكثر من 11 عاما، قبل أن تطيحه الثورة.
مع نجاح الثورة التونسية وبداية التحول الديمقراطي، تشكل مشهد سياسي جديد، من أبرز سماته سرعة وصول السياسيين إلى منصب الوزارة، وسرعة رحيلهم عنه كذلك، ففي سبع سنوات عرفت تونس سبعة رؤساء وزارة بشكل متسارع. وبالنظر إلى تغير البنية الدستورية لنظام الحكم التونسي، وتحوّل القسم الأهم من إدارة البلاد إلى رئاسة الحكومة، أصبح تنازع السلطات بين قاطني القصبة وقرطاج أمرا اعتياديا، سواء في مرحلة الترويكا والتجاذبات بين الرئيس السابق المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة حمادي الجبالي، أو ما يجري حاليا من حالة شد وجذب بين الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد.
ما ينبغي ملاحظته بشأن موقع الوزير في مرحلة الانتقال الديمقراطي التونسي وقوعه بين المطرقة والسندان، فهو يأتي من خلال حسابات حزبية وتوافقات، من دون النظر إلى الكفاءة، أو القدرة على إدارة الملف الوزاري المسؤول عنه. ومن ناحية ثانية، أصبح الوزير في مرمى انتقاد جمهور مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تفوّت شاردة ولا واردة، في سلوك الوزراء، من دون فضحهم أو السخرية منهم، وكشف تقصيرهم، بالإضافة إلى الدور المهم الذي تقوم به
الكتل البرلمانية في استجواب الوزراء، وكشف تقصيرهم وعجزهم. وقد صرّح أخيرا أحد وزراء حكومة الشاهد (وهو من وزراء حكومات بن علي الماضية)، بعد استجوابه أمام مجلس النواب، "ما رأيته لم أره في تاريخي وحياتي المهنية والسياسية". ومن الطبيعي أن يستغرب الوزير، فهو لم يتعود، زمن توليه الوزارة في ظل حكم الاستبداد، أن يستجوبه النواب، أو أن يتعرّض للإحراج عبر الوثائق والمساءلة اللفظية الحادة، الأمر الذي يعني حاجته إلى إعادة تحيين سلوكه السياسي، فموقع الوزارة لم يعد كما كان، وليس الوزير، أيّا كان، فوق المساءلة والنقد.
احتكاك الوزراء بالجمهور العام الذي أصبح يملك بدوره أدوات تعبيره، وصناعة إعلامه الخاص، الأشد تأثيرا والأكثر نفوذا من الإعلام الرسمي ذاته، جعله يعاني من حالة ارتباكٍ في طبيعة التعامل مع المنصب، خصوصا إذا كان يفتقر إلى خبرة العمل السياسي، ويعاني أزمة اتصال، كحال وزراء كثيرين بعد الثورة. وهذا ما يفسر انتشار السخرية من سلوك كل الوزراء على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحوّل تصريحاتهم الفجة إلى مصدر للنكتة السياسية بشكل غير مسبوق، بل إن تعرّض أحد الوزراء إلى التعنيف من أحد المواطنين، على الرغم من إدراكه هويته، يوضح مدى التحول الذي لحق بطبيعة تقدير المواطن العادي للوزير. فلم تعد السلطة مصدرا للقداسة المغشوشة، أو الهيبة المبالغ فيها، بقدر ما ينظر إليها الجمهور العادي، بوصفها مصدرا يستفيد منه السياسي، من دون أن يقدّم جهدا يساوي الامتيازات التي يقدمها الموقع الذي يحتله. وهذه ظاهرةٌ، على الرغم من غرابتها في ظل الحاجة إلى إيجاد وزراء قادرين على فرض حضورهم، عبر أعمالهم وجهودهم في خدمة الناس، إلا أنها، في النهاية، تشكل أحد الأعراض الضرورية التي ترافق أي تحول ديمقراطي، وهو ما يفرض على المسؤولين السياسيين مراجعة تصورهم للمشهد العام ككل، فهو قابل للعزل في كل حين، وهو موضوع للنقد دائما. ولا يمنح الموقع السلطوي صاحبه القداسة، ولا يصنع له تاريخا مجيدا، إلا بقدر نجاح الوزير في خدمة الناس، وفي أداء واجبه بكفاءة، فهو ليس صاحب فضل على أحد.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.