الشاهد ولعبة الحبال المتحرّكة

الشاهد ولعبة الحبال المتحرّكة

31 يوليو 2018
+ الخط -
أخيراً، تغلبت في تونس المصلحة الوطنية على الحسابات الحزبية والفئوية الضيقة. لقد صوّت البرلمان لصالح وزير الداخلية الجديد الذي اختاره رئيس الحكومة، يوسف الشاهد. وعلى الرغم من أن ذلك جاء في سياق مناورةٍ مدروسة من رئيس الحكومة الذي كان يخشى عدم الحصول على الأغلبية، ما سيكون بمثابة سحب الثقة من حكومته التي فقدت كثيرا من الدعم، وكثر الحديث عن احتمال سقوطها قريبا، خصوصا بعد انقطاع الحبل السري الذي يربط الشاهد برئيس الجمهورية الذي انحاز لصالح ابنه، وكل الذين يدعون إلى التغيير الجذري للحكومة... ثلاثة عوامل حسمت الأمر لصالح الشاهد.
أولا: حسن اختيار الوزير الجديد. فهو تكنوقراط، ومستقل عن جميع الأحزاب، وبعيد من التجاذبات السياسية التي أرهقت التونسيين، وأربكت المؤسسة الأمنية طوال السنوات السبع الماضية. هذه المؤسسة التي قدمت شهداء كثيرين في المعركة ضد الإرهاب، وحققت، في الآن نفسه، انتصاراتٍ عديدة كان لها الدور الحاسم في تحقيق الاستقرار النسبي الذي تتمتع به تونس حاليا. لقد أنقذ الشاهد نفسه وحكومته، عندما قدّم الجانب الأمني، ما وضع خصومه أمام اختيارٍ صعب، في مرحلة يخشى فيها أن تكون المجموعات المسلحة قد اختارت توسيع دائرة المواجهة، لتشمل أيضا المدنيين، إلى جانب العسكر والأمنيين والسواح.
ثانيا: وقوف حركة النهضة بكل ثقلها لصالح استمرار الحكومة، والتصويت لوزير الداخلية الجديد. وعلى الرغم من الضغوط والانتقادات التي وجهت إليها، إلا أنها تمسّكت بهذا الموقف، بحجة المحافظة على الاستقرار السياسي. هذا الاستقرار الذي تؤيده بقوة الدول الغربية والجهات المانحة. وقد أشرف زعيم الحركة، راشد الغنوشي، بنفسه على تهيئة كتلة "النهضة" في البرلمان، للحيلولة دون انقسامها، وهو ما أثر إيجابيا في نتيجة التصويت. وبذلك تكون الحركة قد ساعدت على إيجاد الظروف المناسبة التي مهدت لدفع كتل برلمانية عديدة لتغيير مواقفها في آخر لحظة، إذ لا أحد يمكنه الطعن في استقلالية الوزير الجديد، واتهامه بالولاء لحركة النهضة.
ثالثا: نجاح أنصار الشاهد داخل حزب نداء تونس في التمسك بمواقفهم، على الرغم من الضغوط التي مورست عليهم، فالاجتماع الذي دعا إليه أخيرا مؤسس الحزب، الباجي قايد السبسي، كان مهما باعتباره المحاولة الأكثر جديةً من أجل إنقاذ الحزب من التفكّك ومحاولة إعادة توحيد صفوفه، إلا أن ذلك لم يؤدّ حتى الآن إلى عزل الشاهد، وإسقاطه نهائيا داخل الحزب وخارجه. كما اضطر السبسي الأب إلى التدخل مرة أخرى، لمنع تصويت الحزب ضد وزير الداخلية الجديد، نظرا لما تحتله المسألة الأمنية من أهميةٍ استراتيجيةٍ في السياق الصعب الذي تمر به البلاد.
هل يمكن القول إن الشاهد قد ضمن بقاءه على رأس الحكومة، وأن التهديد بإسقاطه قد زال نهائيا؟ عمليا لا شيء يضمن ذلك، فخصوم الرجل لا يزالون يعملون ضده بكل قوة وشراسة. وحتى الذين يسندونه، في هذا الظرف الحساس، لا يمكنهم تقديم دعم غير محدود، أو يتعارض مع مصالحهم، بمن في ذلك "النهضويون". وإذ نجح الشاهد أخيرا في فتح التفاوض مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث تمت تسوية بعض الملفات الخلافية، إلا أن النقابات لا تزال غاضبة، حيث يستمر الأمين العام للاتحاد يوجه بلا انقطاع رسائل مناهضة للسياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة بدعم من صندوق النقد الدولي، ويهدّد بخريف غاضب، وبتحركات احتجاجية واسعة النطاق، بعد انتهاء الصيف.
وفي محاولة لامتصاص غضب العمال من جهة، وتراجع منسوب الثقة في حكومته بحسب آخر استطلاعات الرأي، وعد الشاهد التونسيين بتحسين أوضاع المعيشة، بدءا من مطلع السنة المقبلة. وعود لا يثق فيها كثيرون، بمن فيهم بعض الخبراء الاقتصاديين.
لا تزال الأزمة السياسية مستمرة، على الرغم من سد الشغور على رأس وزارة الداخلية، فتونس في حاجةٍ إلى وفاق جديد يحمي الدولة، ويحفظ الاستقرار، ويخفّف من حدّة الأزمة الاقتصادية. وهو رهانٌ لا يمكن التيقن من حدوثه، فكل ما يجري حاليا هو مقدماتٌ لأخطر سنة سيمر بها الانتقال الديمقراطي، حيث ستكون 2019 سنة الحقيقة.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس