في أزمة الصادق المهدي مع مصر

في أزمة الصادق المهدي مع مصر

04 يوليو 2018
+ الخط -
تستحق التطورات التي أعقبت قرار السلطات المصرية منع الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة السوداني وإحدى القيادات السياسية المعارضة البارزة لحكومة الخرطوم، من دخول أراضيها، التأمل في مسبّباتها وما صاحبها من موجةٍ ساخنةٍ، شاجبةٍ ومندّدة، من حزب الأمة خصوصا، فقد دأب الصادق المهدي في كل مرة يشتد فيها عليه الخناق والمضايقات من الحكومة في الخرطوم على السفر إلى القاهرة. ويلفت هذا المنع النظر وبشدة، لأنه يناقض وللمرة الأولى الموقف الرسمي الذي سار عليه الحكم في مصر، منذ مطلع التسعينات، باحتضان كل ممثلي الطيف السياسي المعارض في السودان. بل إن لتوقيت تنفيذ هذا المنع دلالة رمزية لافتة، فقد صدر في ليلة 30 يونيو/ حزيران، وهو في يوم ذكرى الانقلاب الذي استولى فيه الإسلاميون على الحكم في السودان الذي كان الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب فيه. وعرف عن الحكومة المصرية طوال الفترة، عقب انقلاب الجنرال عمر البشير، ثبات تمسّكها باحتضان القيادات المعارضة للخرطوم، وتمنع بحث هذا الأمر مع الخرطوم، لإدراكها أن الأخيرة تحتضن قيادات مصرية من الإخوان المسلمين ومطلوبين للعدالة في مصر، إلا أن تفجر الأمر هذه المرة، وانزلاق حزب الأمة إلى الرد اللفظي الساخن، وحشد الكلمات القوية في عدة بيانات تتالت من الحزب وقياداته، تجعل المتابع يبحث بين السطور عن موجبات هذا الانهيار في العلاقة بين الصادق وحزبه والحكومة المصرية. والثابت أن الرجل ظل وحزبه، طوال السنوات الماضية، مقيما ومرحبا به دائما في القاهرة، وله فيها مقر لحزبه في مكان معلوم، ويتمتع بكل الحرية في الحركة والكلام والالتقاء بنخب سياسيين ومثقفين مصريين.
هناك ما يوحي بأن في الأمر ترتيبات تتم على مستوى الحكومتين، في مصر والسودان، يراد لها أن تتم في هدوء، وتعدّ لأمر واقع جديد، ليس فيه مكان للصادق المهدي، على الأقل في هذه المرحلة، بل أكثر من ذلك أن المهدي نفسه لا يُستبعد أن يكون على علم بتفاصيل هذه 
الترتيبات، بحكم علاقاته الوثيقة بمختلف مستويات اتخاذ القرار في مصر، من دون أن يكون له فيها من دور أو موقع. وتتبيّن رائحة الترتيبات من البيانات الغاضبة التي صدرت عن حزب الأمة، وأولها ما صدر عن مريم ابنة الصادق المهدي، والمرافقة له بوصفها نائب رئيس الحزب، حين تقول : "إن هذا القرار التعسفي (منع دخول الصادق مصر) سوف يغرس إسفيناً غائراً في مستقبل العلاقات السودانية - المصرية"، و"هذا الإجراء الرسمي المصري الهادف إلى إرضاء نظام الخرطوم سوف يثير سخطا شعبيا في السودان وفي مصر". ترددت العبارات نفسها في البيان الذي أصدره حزب الأمة في الخرطوم، ومنها أن "السلطات المصرية كانت قد طلبت من الحبيب الإمام أن لا يشارك في اجتماعات برلين، الأمر الذي رفضه من حيث المبدأ". ويعلن البيان "رفض أي إملاءات خارجية في الشأن الداخلي السوداني". حتى يصل البيان إلى نتيجةٍ واضحةٍ "أن الحكومة المصرية تسبح عكس التيار، وأنه لمن المؤسف أن يشتري النظام المصري رضا قلة فاشلة خصما على رضا الشعب السوداني".
وتدل لغة البيانات على علم حزب الأمة، ومعرفته بالترتيبات، وعلى الأقل علم رئيسه الصادق المهدي، لكنه يرفض أن يُساق إليها من دون إشراكه في تفاصيلها، ولعل أهم مؤشرات العلم بالترتيبات الوفد رفيع المستوى، برئاسة الفريق الهادي عبدالله، الذي أجرى محادثات مع الصادق المهدي في القاهرة منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي. ثم صدور بيان، وقعه الصادق الهادي، يتضمن ملامح مشاورات تتم، إذ بحث اللقاء "القضايا الوطنية، وأهمها استكمال مسيرة السلام على أساس خارطة الطريق والمشاركة في اللجان القومية لإعداد الدستور الدائم، وبحث مخرجات الحوار الوطني". وتأكيد المضي في اللقاءات "مواصلة التشاور حول إيجاد وسائل لمتابعة التنفيذ الأمثل لإجراءات تهيئة المناخ وخارطة الطريق، وبهدف تحقيق الوفاق القومي والشامل الذي لا يهيمن عليه أحد، ولا يستثني منه أحدا في مسيرة الوطن الهادفة إلى سلام عادل شامل، وتحول ديمقراطي كامل، بوسائل سلمية خالية من العنف".
البيان واضح في معانيه، ويسير على وقع الأزمة السياسية الحادّة في الخرطوم، ومسعى حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) إلى إيجاد مخرج في حكومة انتقالية. وقد أشار القيادي في الحزب، عبدالرحمن الخضر، إلى حوار يجري مع الحزبين، الشيوعي والأمة، لكنهما سارعا إلى نفي وجود هذا الحوار. وقد رفض الحزب الشيوعي دعوة الحكومة إلى التفاوض، قبل أن تفي بالتزاماتها السابقة، بتوفير متطلبات الحوار الناجح. فيما تأرجح موقف حزب الأمة، إذ تنفي قياداته في الداخل، ممثلة في اللواء فضل الله برمة ناصر، نائب رئيس حزب الأمة الذي نفى، وجود أي شكل من الحوار بينه و"المؤتمر الوطني"، بهدف تقريب وجهات النظر والنقاش حول الحوار الوطني. وزادت عليه الناطقة باسم الحزب، سارة نقدالله، بكلماتٍ أكثر قوةً، إذ قالت إن حزبها يتمسّك بعملية سياسية جديدة، تتضمن تكوين حكومة انتقالية.
يتناقض هذا الموقف تماما مع محادثات الصادق المهدي في القاهرة مع وفد حكومي سوداني وبيان مشترك. وقد باتت هذه الازدواجية في الخطاب في حزب الأمة مألوفة. وهنا يبرز 
احتمال أن القاهرة، وبتوافق مع الخرطوم، كانت تضع اللمسات للقاء أكبر يتطلب وجود المهدي في مصر. وتخشى ترتيبات مصرية أن يعكّرها ما قد يخرج به مؤتمر برلين الذي يرأسه الصادق المهدي، ويضم مجموعات من ممثلي المعارضة المسلحة ضمن قوى تكتل نداء السودان. وقد علم الصادق بما تقوم به القاهرة، وخوفها منه وما قد يصدر عنه أو عن "نداء السودان" في برلين من مواقف قد تنسف المساعي المصرية، ما جعلها تناشده بعدم السفر إلى ألمانيا. الأمر الثاني أن مصر تعود إلى نقطة مصالحها في السودان، والبحث عن مخرج للأزمة السياسية والاقتصادية في البلدين معا، بما يعني توافقا أكثر بين الحكومتين في القاهرة والخرطوم، وتنسيقا أكبر في كل المناحي، وباعتبار أن في وجودهما معا على صعيد واحد أمرا حيويا للغاية لكلتيهما. بمعنى آخر، إننا موعودون بعلاقة قوية قوامها اقتصادي، والتقاء في المصالح، ما يعني ترتيبات فوقية بين نظامي الحكم في البلدين، كما عرف ذلك تاريخيا، وما يعني العودة إلى مربع التكامل بين البلدين مجدّدا، وعودة إلى علاء المصالح، فتعود مصر إلى مناصرة الحكم في السودان، وهي سمة تاريخية طبعت العلاقة بين البلدين.
يعجّل السودان بالترتيبات الجديدة، فيسحب سفيره عبد المحمود عبدالحليم، سفير المرحلة الأكثر خطورةً في العلاقة بين البلدين، والذي لم يكن يحظى بقبولٍ لدى الأجهزة الأمنية المصرية بشكل خاص، وعيّن في مكانه السفير ياسر خضر، وهو معروف ليس فقط بقربه من الرئيس عمر البشير، وإنما أيضا بوصفه ضابطا مرموقا في جهاز الأمن السوداني. توحي هذه الخطوة بأن الترتيبات الأمنية المتفق عليها بين الحكومتين دخلت حيز التنفيذ، تمهيدا لعلاقات فوقية بامتياز.
وحتى الأمن السوداني بادر، على صعيد داخلي، إلى منع الصحف السودانية من تناول ما جرى للصادق المهدي في مصر. ونسبت صحيفة الراكوبة الإلكترونية إلى صحافيين عاملين في الصحف في الخرطوم أنهم تلقوا توجيهاتٍ من مسؤولين في جهاز الأمن، تطلب حجب "أي مواد يمكن أن تثير حفيظة الحكومة المصرية". باختصار، سوف يخرج الصادق المهدي بعد حين، ومن أي بلد كان، ليملأ الفضاء السوداني ضجيجا بتفاصيل حوارٍ أبعد منه، أكثر منه موقفا مصريا تجاهه شخصيا.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.