في تفكيك الأزمات العربية

في تفكيك الأزمات العربية

04 يوليو 2018
+ الخط -
لم يكن الفيلسوف جاك دريدا معنيا بالسياسات اليومية في بلده فرنسا، ولا حتى في الجزائر التي ولد فيها وعاش، حين ابتدع مفهومه الفلسفي "التفكيكية" الذي يقيم علاقةً بين المعنى واللغة، معتمدا على معالجة النصوص عبر تفكيكها، أي تحليلها وهدمها وإعادة بنائها، حيث لكل نص حكاية مغايرة، لكنه في واحدةٍ من التماعاته الذكية انتبه إلى أن مشكلة الإعلام هي في انطلاقه مما وصفه "لغةً سياسيةً مهيمنةً قد لا تسمح بمناقشة الوهم الذي هو أشد رسوخا من الحقيقة مناقشة نقدية صارمة". نتذكّر هذه "الالتماعة"، ونحن نراقب ما يطفو على سطح الخطاب الإعلامي العربي في أيامنا من تكرار استخدام محللين ومعلقين عديدين مصطلح "التفكيك"، في معرض إشارتهم إلى أن معالجة الأزمات العربية الماثلة تكمن في ضرورة "تفكيكها"، تمهيدا لحلها، مع أن "التفكيك" يتضمن الكشف عما هو مسكوتٌ عنه، وهو الجانب الذي لا يريد الكشف عنه السياسي العربي الذي يعيش على الأزمة، ويتعيّش بها، حتى قيل إن السياسي "الشاطر" هو الذي يصنع الأزمة، ثم يقضي زمن ولايته أو إدارته في تفكيكها وحلها، وقد اكتشفنا أن كل أزمة عربية لا تصل إلى نهايتها قبل أن تلد أزمة أخرى، هي أيضا تحتاج إلى تفكيك!
والباحث في الأزمات العربية في زمننا الحاضر يجدها كثيرةً ومتشعبة، وتحتاج إلى مهارة وذكاء وثقافة سياسية وخبرة لتفكيكها وحلها، لكن ما يشكل العقدة الأكبر عدم توفر النية الخالصة لدى أطراف كل أزمةٍ للوصول إلى تسويةٍ تضمن توافق الجميع عليها، إذ ينطلق كل طرف من مصلحته الخاصة، ويسعى إلى أن يكون الطرف الغالب. ولذلك نجد أن المؤتمرات والاجتماعات لا توفر الحد الأدنى من التوافق، فضلا عن أنه قد يكون لبعض الأطراف 
المصلحة في إبقاء الأزمة متفجرة، والنار مشتعلة لغاية تحقيق ما تريده هي منها، ففي الأزمة السورية التي كانت بدايتها حركة احتجاجاتٍ لناشطين في أكثر من مدينة، على خلفية حالة الطوارئ التي استمرت عقودا، طالبوا فيها باحترام حقوق الإنسان وإصلاحات ديمقراطية، ركب النظام رأسه، وأطلق حملة قمع دفعت إلى الواجهة بصراعاتٍ مسلحةٍ، شاركت فيها حركات سياسية ومليشيات وجيوش ودول، نتج عنها خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتصاعدت وتائر الأزمة، حتى أصبح تفكيكها وحلها صعبا ومعقدا.
ولا تقل الأزمة اليمنية، في تشابكاتها وتعقيداتها، عن الأزمة السورية، فثمة استقطابٌ لقوى محلية من إيران التي تخطط لجعل هذا الاستقطاب طريقا إلى نشر مشروعها العرقي. ولذلك نراها لا تتوانى عن توفير الدعم السياسي والإعلامي، وأحيانا الدعم العسكري أيضا لتلك القوى، من أجل ادامة تدخلها وتقوية وجودها الذي لا يحظى برضا قوى إقليمية أخرى، ترى في التمدد الإيراني مشروعا مناهضا لها ولأمنها القومي. وقد دخلت السعودية في اللعبة اليمنية بكل قواها، وشكلت "تحالفا" عسكريا أطلقت من خلاله حملة "عاصفة الحزم" التي تحولت إلى "إعادة الأمل"، بهدف مواجهة النفوذ الإيراني ومحاصرته، لكن سنوات ثلاثا مرّت، والحملة السعودية تراوح مكانها، لتحصد أرواح آلاف اليمنيين، وتدفع بمثل هذا العدد إلى التشرّد والنزوح، وتغرق البلاد في دائرة فوضى شاملة، كما تهدّد بتورّط لاعبين آخرين فيها.
هناك أيضا الأزمة الليبية التي استولدت على مدى سنوات سبع حكومات ومليشيات وقبائل حاكمة عديدة في هذه المدينة أو تلك، لكنها لا تملك الحد الأدنى في ما بينها للتوافق على حل، ولا يزال شك في أن تستطيع الأمم المتحدة ترتيب انتخابات رئاسية وتشريعية نهاية العام، كما لا تزال ثمة عقدة خفية، من دون حل أيضا، تتعلق بالهلال النفطي الذي يحوم من حوله الجميع.
هناك أيضا أزمة محاصرة قطر من دون سبب، والتي كبرت كما كرة الثلج، وبدا من تطوراتها كما لو أن الرياض وأبوظبي تريدان هدم مجلس التعاون الخليجي على ساكنيه.
أما في العراق، فثمّة ما هو أدهى، حيث أزماته تتناسل على مدار الساعة، جديدها أزمة الفراغ الدستوري الذي حول حكومة حيدر العبادي إلى حكومة تصريف أعمال، واحتمال اللجوء إلى عملية قيصرية، تضمن ولادة البرلمان المنتخب، أو العودة إلى المربع الأول.
مع استمرار هذه الأزمات وتناسلها، يظل مصطلح "التفكيك" مطروحا على الشاشات، فيما يظل السياسيون يعيشون على تلك الأزمات، ويتعيشون بها إلى أن يقضي الله أمرا.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"