فتِّش عن الأم

فتِّش عن الأم

29 يوليو 2018
+ الخط -
يركض المرء في المضمار مؤمّلا السبق، وقد يستهلك قوته ويشعر بالفشل، لكن شيئا يمنعه من الاستسلام؛ إنها الأم. قد يغسل الوالد يديه من ولده، ويوبخه لتراخيه أو تأخره، وربما يكيل له التقريع واللوم، والرجل يخفي مشاعره خلف ستر من الغضب، غضب يفيض حبًا وعذوبة وحنانا على ولده. لكن تبقى الأم الرؤوم قبلة أبنائها ومصدر إلهامهم، ووراء كل رجل عظيم امرأة.
في فاقوس في محافظة الشرقية، ومن بيتٍ يتداعى بالطوب اللبن، وفي جسم أحكم عليه المرض قبضته، تلمح صبيا يلمع الذكاء في وجهه، في جسد نحيل وابتسامة تحمل معان كثيرة، ربما ابتسامة سخرية من ضمور عضلات يديه وقدميه، ولم لا؟ وهو الذي تغلب على ضمور العضلات، ولم يرضخ له. على الرغم من ظروفه الصحية والاجتماعية الصعبة، نجح علاء كمال السيد، لم يتعلل بمرضه، ولا بظروفه الخاصة، ولم يقتل الوقت بين الضجر والاستسلام، وكانت أمه تشجعه وتحثه على المثابرة والتفوق، كما كانت أم توماس إديسون تؤمن به يوم خذله الجميع.
سخّرت الأم كل وقتها لمساعدة علاء على تحقيق حلمه، وشجعته بكل ما أوتيت من بساطة الأم وقوتها وتفانيها لأجل أبنائها؛ فلم تشعر الأم باليأس. وهذا ما تسربّ إلى مسام ابنها، فأصر على التفوق. وبنفس تشبّعت بالرضا، يقول: "كنت أذاكر عشر ساعات يوميًا، وساعدتني شقيقتي الكبرى مي في حفظ عشرين جزءًا من القرآن الكريم، وأحافظ على الصلوات الخمس". أخته الكبرى رماها الدهر بالمرض نفسه؛ فهي ترزح تحت آلام ضمور العضلات، ولم تسخط أو تتبرم مما ألم بها؛ بل وساعدت أخاها ليحفظ كتاب الله. هيأ الله الأسباب لهذه الأسرة، لأنها رضيت بقسمة الله لها، والرضا لمن يرضى، وتطوع إسلام صديق علاء لمساعدته في الدراسة.
فإذا انتقلت من فاقوس إلى الجزائر، ففي منطقة البيض ترى العجب العجاب؛ فهذا طالب آخر كتب قصته بأصابع قدميه، ولا مجاز في ذلك على الإطلاق؛ فالطالب علي شعيب، اجتاز امتحانات شهادة البكالوريا بأصابع قدميه، وليس ذلك لسهولة الاختبارات (كما هو التعبير الشائع في مصر)، بل لأنه فقد ذراعيه.
حاربت أمه الجميع ورفضت أن يترك الدراسة، وقامت على خدمته ورعايته دون كلل أو ملل، ولأن الحماس يعدي فقد تطوع أحد معلميه أن يساعده، وظلت الأم تبث في ابنها روح المثابرة والعزيمة حتى سطر نجاحه بأصابع قدميه، وأثبت أنه لا مستحيل تحت الشمس. عندما تكون صادقًا في التماس هدفك، يسخر الله لك صديقًا أو معلما يشد على يديك، ويذلل لك بعض المتاعب والعقبات، وقبل الجميع تجد أمك.
إنّ للنجاح فرحة لا توصف، كلما كانت التحديات كبيرة كانت لذة النجاح أشد وقعا في النفس، وليس في حياة المصريين قلق يعادل قلق الثانوية العامة؛ فهي البعبع الذي ترتعد منه فرائص الطلاب وأهلهم على حدٍ سواء. إذا وجدت نفسك محبطًا أو راودك الاكتئاب؛ فاذكر على الفور ما كابده علاء كمال وعلي شعيب، يسرى مارديني ومروة حسن، ونماذج كثيرة ممن قاتلوا من أجل البقاء؛ فحققوا نجاحات مشرفة.
بعبع الثانوية العامة أصعب على من خاض غمارها من الولادة القيصرية، والاكتئاب الذي يسيطر على بعض أولياء الأمور بعد النتيجة أبشع في أعراضه من اكتئاب ما بعد الولادة، والسعادة التي تغلّف قلوب البعض الآخر تبدّد كل محاولة للهزيمة، نوع من التبديد المرغوب والمنتظر. عشنا لحظة الفرح والدموع تتأرجح في العيون وعلى الخدود؛ وأطيب التحايا لكل أم.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)