غزة و"أونروا".. الكوارث لا تأتي فرادى

غزة و"أونروا".. الكوارث لا تأتي فرادى

28 يوليو 2018
+ الخط -
تحدّث مسؤولون في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أخيرا، عن نجاح الوكالة في تخفيض العجز من 466 مليون دولار إلى 217 مليون دولار. وقد اعتبر هذا التطور مشجعا في عمل الوكالة، الناشطة في عملها منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وبعد نحو عامين على نكبة تشريد الفلسطينيين من وطنهم. وتتوزّع خدماتها في مناطق اللجوء: الضفة الغربية المحتلة، قطاع غزة، الأردن، سورية، لبنان. وتتركز الخدمات على قطاعي التعليم والصحة بصورة أساسية. وكان الانطباع، حتى أيام قليلة خلت، أن الوكالة ماضية في خطتها لسد العجز المالي الناجم أساساً عن تخفيض الولايات المتحدة حصتها في الدعم من 365 مليونا إلى 60 مليونا فقط. وقد جاء القرار الأميركي متساوقا مع مطلب إسرائيلي بتصفية الوكالة التي يشهد وجودها على محنة اللجوء المستمرة منذ سبعة عقود، غير أن الأنباء اللاحقة أفادت باتخاذ الوكالة سلسلة إجراءاتٍ لتقليص النفقات، وقد تم اختيار قطاع غزة هدفا لهذا التقليص، الذي طاول زهاء ألف موظف، بعضهم بدوام كامل، وآخرون بدوام جزئي، وشملت القرارات المتعلقة بالتسريح موظفين أمضوا عشرين عاما في عملهم، مع منح مهلةٍ لتنفيذ القرارات تمتد حتى نهاية العام الجاري.
تفسّر "أونروا" إجراءاتها هذه بوجوب مواجهة العجز المالي المستمر، على الرغم من تقلص هذا العجز، غير أن الوكالة لا تعرض خطة وافية لهذه الإجراءات، وعلى نحوٍ يكفل عدم الوقوع في التعسّف. وقد جاء اختيار قطاع غزة ليثير علامات استفهام كبرى، فالقطاع يعاني من مشكلاتٍ اقتصاديةٍ صعبة يشهد لها العالم، مرفوقة بتردّي الخدمات الأساسية، وبحصار
ٍ مطبق بري وبحري، وبعقوبات تشارك فيها السلطة الفلسطينية، وباعتداءاتٍ عسكرية إسرائيلية، بما يجعل من خطوة وكالة الغوث بمنزلة كارثة جديدة، تضاف إلى سلسلة الكوارث، ومما يجعل هذا القطاع في مرتبةٍ متقدمةٍ على قائمة الاحتياجات الواجب الوفاء بها تجاه مخيمات اللجوء. وما أقدمت عليه إدارة الوكالة التي تتخذ من فيينا مقرا رئيسا لها هو، في أحسن الأحوال، تصرّف غير مسؤول، ويتعاكس مع رسالة الوكالة. ومن حق المتضرّرين، وهم يمثلون آلاف العائلات، احتساب ما جرى بأنه ينطوي على رسالةٍ سياسيةٍ مفادها خنق القطاع من أجل تهيئة أبنائه وسكانه ولاجئيه لحلول سياسية لاحقة، منها تقليص تدريجي لحجم وكالة أونروا ودورها، تمهيدا لإسدال الستار على قضية اللاجئين وحق العودة. ويعرف الضالعون في علوم الإدارة واقتصادياتها أن ضغط النفقات يمكن أن يتوزّع في مناحٍ شتّى، وبأساليب مختلفة، ليس من بينها بالضرورة التسريح التام في وكالةٍ دوليةٍ، من مهامها الجوهرية إغاثة اللاجئين وتشغيلهم.
ومن الواضح أن اختيار قطاع غزة لهذه الإجراءات الاستئصالية جاء لتفادي الوقوع في مشكلات مع الدول المضيفة للاجئين في لبنان وسورية والأردن، وحيث تعترض هذه الدول، ولها ملء الحق في ذلك، على تقليص خدمات الوكالة الدولية، إذ سوف ينقل التقليص أداء الخدمات المنوطة بالوكالة إلى هذه الدول التي تنوء بمتاعب مالية جمّة. وسوف يكون من السهل إلقاء الأعباء على حركة حماس التي تدير القطاع، من دون أن يصغي أحدٌ لاعتراضات هذه الحركة التي لا تجد غطاءً سياسيا لها خارج قطاع غزة، مقارنة بالدول المضيفة للاجئين.
وكان من الطبيعي أن تثير هذه الإجراءات الصادمة موجة سخط عالية في القطاع، تضاف إلى حالة السخط من مجمل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخانق. ولا تجد إدارة الوكالة أمام موجة الاعتصامات، واحتلال جزئي لمقرات الوكالة، سوى التهديد بتعليق خدماتها! وكأننا إزاء شركة تجارية لا تجد أمام تكبدها متاعب مالية سوى التلويح بإغلاق فروعها التي منيت بالخسارة.
فيما سيختلط العبث بالمأساة في حالة السلطة الفلسطينية التي ستجد نفسها مدعوةً إلى التحرك نحو الوكالة الدولية، لمراجعة قراراتها الخطيرة، في وقتٍ تقدم فيه السلطة نفسها على إيقاع 
عقوباتٍ على القطاع، تشمل تقليص الرواتب وتأخيرها وإحالات على التقاعد المبكر، والحرمان من التيار الكهربائي معظم ساعات اليوم. وهو ما أثار موجة احتجاجاتٍ واسعة في الضفة الغربية، تضامنا مع قطاع غزة، وقد جاء قرار وكالة أونروا ليضفي مزيدا من التعقيد المأساوي على الوضع في القطاع، وليعمق من أزمة حركة حماس، في سيطرتها على القطاع. حيث تعجز الحركة عن الوفاء بالمتطلبات الأساسية لمليون وسبعمائة ألف من السكان، ولا تجد منفذا لتنفيس الاحتقان الاجتماعي، وهو ما يجعل القطاع على درجةٍ عاليةٍ من الاحتقان، تنذر بانفجار مع انسداد المخارج الاقتصادية والاجتماعية في مواكبة انسداد سياسيٍّ، يتمثل في تعطل سريان المصالحة وإنهاء الانقسام، وانعدام أية بوادر لتسوية جدية لقضية الأراضي المحتلة والحقوق الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزة وأبناءه ولاجئيه (يضم القطاع ثمانية مخيمات كبيرة أقيمت منذ سبعة عقود).
وأمام هذا المشهد المعقد، يبقى الأمل في أن تبادر دول شقيقة (خليجية)، ودول صديقة (أوروبية مثلا)، إلى وضع برنامج دعم لوكالة أونروا، لسد تدريجي للعجز المالي، والرجوع عن قراراتٍ مجحفةٍ بتسريح مئات الموظفين والعاملين. وسبق لدولٍ شقيقةٍ، منها الكويت، أن تقدمت بمبادراتٍ على هذا الصعيد، كما تتجه الأنظار إلى الدول المضيفة بأن تبادر بالدفع نحو إنقاذ الوكالة من أزمتها الطاحنة، هذا من دون أن يغيب عن البال الواجب الذي ينتظر متموّلين فلسطينيين، ومؤسسات مالية فلسطينية، بالمبادرة إلى أداء هذا الواجب الوطني والاجتماعي، ووفق اللوائح الناظمة لتمويل المنظمات الدولية. إذ إن استمرار وكالة الغوث في أداء خدماتها أمر لا مناص منه، لتلبية احتياجات اجتماعية أساسية وواسعة، ومن أجل إحباط المخطط الإسرائيلي لتصفية قضية اللاجئين، وإغلاق الوكالات الدولية التي يشهد وجودها على هذه القضية، الحية والحيوية.