داعشية إسرائيل.. وعنصريتها

داعشية إسرائيل.. وعنصريتها

26 يوليو 2018
+ الخط -
كان العالم يتحالف لمحاربة فكرة اصطفائية، اعتبرت نفسها جوهر الحقيقة، وبالتالي الفرقة الناجية، ولأجل ذلك، بعد صناعة المقولة وبلورة النصوص بما يتفق مع ذلك، جندت الشباب وسلحتهم بالعقيدة أولاً والسلاح ثانياً، مما مكّنها من حيازة المكان الذي أوجد مساحة جيوسياسية، سمت نفسها اختصاراً "داعش"، وهذه عبرت عن فكر انغلاقي يصور الآخر عدواً، وبالتالي مشروع قتيل، هذا العالم الذي بذل في سبيل ذلك أعداداً ربما لا تُحصى من الصواريخ، والعتاد والجنود، وأرقاماً لن تكون أبداً دقيقة من الضحايا والمشرّدين، ووسائل إعلام جَمّلت الوجه البشع، في حالات كثيرة، لتلك الحرب التي امتدت سنوات، وتكاد تنتهي بدون حسم حقيقي للظاهرة، وإنما بهزيمتها مؤقتاً، ربما لجولةٍ أخرى، لأن عناصر إنتاجها لا تزال كامنة في وجدان كثيرين.
هذا في ما يَخُص "داعش"، فما بالنا و"داعش" قد اختفى منذ عقود في حضن الحضارة العريقة، والتي ادعت أنها المُنتِج الفعلي للقيم الإنسانية والأخلاقية التي تكرس الآخر، وتحترم مكانته وتعتبره رديفاً، حتى في أقصى لحظات ضعفه، وإنْ كان على الصعيد النظري فقط، أعني إسرائيل والغرب.
اعتمدت إسرائيل، منذ إنشائها، مبدأ الاصطفاء المستند إلى فكرة دينية، فحواها الشعب المختار والمميز ربانياً وبالتالي أرضياً، واستحضرت لأجل ذلك كله تاريخاً لا تاريخياً، عمره آلاف السنين، لم ولن يثبت أركيولوجياً في أي يوم. ومع ذلك، استطاعت، وفي ظرف تاريخي، أن تحصل على اعتراف العالم القوي بأحقيتها في تحقيق ما ادعى رواده أنه حُلم الشعب المختار، وهذا ما حصل.
ولتوائِم مشروعها مع مطامع الأقوياء، غلّفته بغطاء هشٍّ من القيم التي يَدّعيها، فكان الشكل 
الديمقراطي والتعاوني والقيمي والإنساني الذى سينهي معاناة شعبٍ سَخَطت عليه الأمم، وعانى، بسبب ذلك، آلاف السنين، وها هي حضارة الغرب تعيده، ليطلق شعاعاً من التحضّر في منطقة افتقدت (كما ادّعى الآباء الأوائل للمشروع) من أي شكل للتحضر، فكانت (إسرائيل)، ولكي يتم ذلك، وفي الوقت الذي تم فيه استحضار شعب ولغة وتاريخ من بُطُون كتب زوّرت بعناية بالغة، لتساهم في صناعة أمة أكثر هشاشةً وزيفاً من التاريخ الذي صُنعت منه، كان يتم، في اللحظة نفسها، محو أمة وشعب من ذاكرة الحاضر، أعني الشعب الفلسطيني.
إلى هنا لحظة التدشين، حيث بدأت بعد ذلك مظلمة تاريخية، تعدّدت جوانبها، فلم يُعرف لها أب حقيقي، فالجميع اشتركوا في لقاح هذا الهجين المنبعث من أعماق تاريخ مزيف، لكنهُ ولد وولدت معه دولة تُصر على أن تكون، ولكن بوجهين، الخارجي كما يرضى العالم، وفي الداخل كما تشتهي النوازع الحاقدة لأقلية نخبوية أدارت هذا الحلم وتبنّته. وفي الطرف الثاني، ولدت معاناة بلا حدود، صورت في خارجها نهاية شعبٍ استغل أرض غيره، وتبنّى طريق الاٍرهاب غير المقبول حضارياً.

إلى هنا، ربما لا يكفي الشكل وحده، لوضع إسرائيل في خانة الداعشية، فهي ظاهرياً واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان ونموذج مميز للحضارة الغربية في شرق قاحل إلا من القسوة والتخلف. ولكن في العمق هي المنتجة الحقيقية لفكرة لربما تعتبر ملهمة لكل الداعشيين.
الاصطفاء والتميز، هذه هي الفكرة، بدأت منذ النشوء، وكانت ممارسات غير مشرعنة، لكنها مترسخة واقعياً، كُرست بقانون "أساس القومية" الذي سُنَّ أخيراً، والذي حدد مفاهيم للدولة، قوامها العناصر والرموز المعتمدة على أصل واحد هو اليهودية، الأمر الذي يكاد يجمع بشكل حصري مفهومي الأبارتهايد، والدولة الدينية، ما يؤدي إلى مفاد واحد، هو هل هذه الدولة شرعية وفقاً للقانون الدولي؟
يصر هذا القانون على الهوية اليهودية للدولة، لغةً ورموزاً وتقريراً للمصير، وحقًّا للعودة وتاريخاً، مع امتداد يعطيها الحق في الولاية على اليهود في كل أصقاع العالم، أليس هذا منطق "داعش" بالضبط؟ يترافق ذلك كله مع إنكار بدون رحمة لحق مكوّن رئيسي موجود، هم سكان الأرض الأصليون، والذين أُسقط عنهم كل حق، إلا كونهم مكونات من الدرجة الثانية، أو ليست هذه هي الأبارتهادية الكولونيالية؟ بل وأمد هذا القانون (الدولة) بإعطائها الحق باعتبار القدس والجولان وكل الأراضي المحتلة (أرض إسرائيل)، إذاً ماذا بقي لما يُسمى القانون الدولي والقيم الإنسانية؟ أو ليس من العبث طرح سؤالٍ كهذا؟ أو لم تتم كل تلك الإجراءات بمباركة القوة الأعظم ورعايتها، والتي تعتبر بمثابة الراعية للعملية التي كان مأمولا أن تقود إلى حلّ بدولتين؟ والذي استهلك عشرات السنين، وربما مئات الرحلات المكوكية، وساعات طويلة من المباحثات، ومناورات هنا، وتنازلات هناك، وآمالاً عريضة بعودة حقٍّ، وإن كان منقوصاً ومشوّهاً، لكنه شكّل بوابة أمل للمستقبل، أيمكن قبول أن يتحول ذلك كله محض هراء، فقط لأن رئيساً أميركياً قرر أن رؤية حقوق الشعوب تنطلق من مفاهيمه هو فقط، لا كما يجب أن تكون.
بموجب مُنتجات هذا القانون، تكون كل الإجراءات المتعلقة بعملية السلام السابقة، على يوم الإقرار قد سقطت نظريا، ولا قيمة لها من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي، وداعميه من الأميركيين. ولكن يبقى السؤال الأهم: ماذا على الفلسطينيين أن يفعلوا؟ ولكن مهلاً قبل الإجابة: ما هي الآثار التي يمكن أن تترتب على الكيان الإسرائيلي، فيما لو طُبقت مفاعيل القانون في الواقع؟
أولاً: وبتطبيق هذا القانون سوف تُلغي إسرائيل قرار التقسيم الذي أُنشئت بموجبه، وبعده قرارات الأمم المتحدة الصادرة بعد حرب عام 1967، وسوف تنسف كل المرجعيات الدولية لعميلة السلام، وسوف تلغي بذلك قرار حلّ الدولتين، ربما لا يشكل ذلك كله شيئاً بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل في الوقت الحاضر، لكنه بالنسبة لباقي المجتمع الدولي سوف يضع إسرائيل خارجا عن القانون، ويصنفها ضمن الدول الدينية، وكذلك العنصرية.

ثانياً: لو طُبق القانون باعتبار أرض إسرائيل من الماء إلى الماء، أعني المتوسط ونهر الأردن، فهذا يعني إضافة أربعة ملايين وثمانمائة ألف فلسطيني لهذا الكيان، ما يجعل العنصر اليهودي أقلية، وذلك يساوي سياسياً مخاطر وجودية على الكيان برمته، تجعله يغرق في مساحاتٍ واسعة من قومية أصحاب الأرض، المتجذرة وغير القابلة للذوبان، قد تحاول أن تفرغه إلى المحيط، ولكن ثبت أن ذلك محال فلسطينياً، لما للتجارب السابقة من قوة تأثير يَصب في الرفض الكلي لمثل خيار انتحاري كهذا، ففلسطينياً أصبح خيار الموت في الأرض شهادة تُرتجى، وبالتالي لم يعد بمستطاع إسرائيل الرهان على هذا الخيار.
ثالثاً: إسرائيلياً ويهودياً، سوف تكون هذه طامّتهم الكبرى، فهنالك انقسام عمودي بدأ يتجذّر بين العلمانيين والمتدينين، وفيما بين المتدينين أنفسهم، يأخذ في جلّه شكل النحن وهم، ما يعني أن هذا القانون سوف يشكل هزيمة أحد الأطراف لحساب الآخر، خصوصا أن الفئة العلمانية، سواء الأيديولوجية أو القومية، بدأت بالتراجع، بسبب هجرتها المتزايدة، ويأسهم من صناعة فارق يُذكر، في واقع تتحكّم به الأساطير المؤسّسة، يبني فيه الطرف اليميني المتدين مقولاته على تعظيم المخاطر الوجودية، ليحقق مكاسب سياسية على الأرض، وهذا مع الزمن سوف يعمق عناصر التفجير الداخلي، داخل مجتمع تختفي هشاشته، أمام تحدّياتٍ يحاولون في كل يوم جعلها ماثلةً أمام الجميع، لتحافظ على شكلٍ، ولو ضئيل، من التماسك.
رابعاً: سوف يضع القانون الجديد اليمين الديني أمام معضلة، وربما قنبلة موقوتة، فحواها
 سؤال الهوية الرئيسي، من هو اليهودي الذي ستنطبق عليه شروط المواطنة؟ فكما هو معلوم، ألقت الهجرة السابقة من الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية سابقاً، بأعداد كبيرة من اليهود اللايهود، والذين زوّروا وثائقهم وانتماءهم الديني، كي يغادروا تلك الدول، وبعد انكشاف أمرهم، أصبح الاعتراف بهم، رهن علمنة الدولة. ولكن بعد هذا القانون، سوف يصبح هؤلاء الناس على هامش المجتمع، وجزءا أساسيا من عناصر التأزيم المستقبلية، يضاف إليهم اليهود الفلاشا المهجرون من أفريقيا، والذين سوف يضيفون تميزاً حسب اللون لأول مرة.
خامساً: العرب والذين يشكلون ما نسبته 20% من السكان، مُيزوا عنصرياً على أسس الدين واللغة والعرق، ووضعوا بشكل ساحق على هامش الهوامش، وهم جزء أصيل لا يمكن التخلص منه، أو إلغاء وجوده واقعا حيّا ومؤثرا. وسوف يشكل كل هؤلاء المهمشين ما لا تقل نسبته عن 35% من السكان، وإذا ما أضيف إلى هذه النسبة جزءٌ من العلمانيين الأيديولوجيين غير القوميين، فذلك يشكل حالة غير مسبوقة من عناصر التأزيم التي قد يكون لغضبها فيما لو تحالفت شأن كبير.
وبالنسبة لتعامل الفلسطينيين مع هذا القرار، ففي ظل الواقع العربي والدولي المُختل، تبدو خياراتهم محدودة، برفض القرار وتحديه سلمياً والتمسّك بقرارات الشرعية الدولية، كما أنه لا يمكن النجاح في أي مسعى فلسطيني ما دام الانقسام حاصلاً بهذا الشكل.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن الاستمرار في التباكي، وشجب القانون الإسرائيلي الجديد، والتذمر من المجتمع الدولي، ومن تخاذل القريب والبعيد، بل يمكن التعامل بحرفية عالية. ولا تنقص الفلسطينيين الخبرة أو الإرادة أو الكفاءة، لخوض معركة قانونية داخل الكيان وخارجه، تضع إسرائيل بشكل عملي أمام محاكمة قانونية وشرعية، تشترك فيها أيضاً خبرات على مستوى العالم، والذي ازداد عدد المناصرين للفلسطينيين فيه. أما الجلوس وانتظار أن تأتي الحلول من مجتمع دولي منشغل في كل شيء، إلا بالحقوق العادلة للشعوب وحقها في تقرير المصير، فلن ينفع.