عن استثنائيتنا ونفاقهم

عن استثنائيتنا ونفاقهم

25 يوليو 2018
+ الخط -
تعجّ مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الغربية، هذه الأيام، بأبحاث ودراسات ومقالات عن انحسار المد الديموقراطي على مستوى العالم، ويذهب بعضها إلى حد القول إننا ربما نشهد بداية نهاية النموذج الديموقراطي الليبرالي، مع تزايد التحديات التي تواجهه، في ضوء تنامي قوة المعسكر اللاديموقراطي العالمي، ممثلاً بروسيا والصين وإيران، وصعود اليمين القومي والشعبوي، سواء في الدول حديثة الديموقراطية (أوروبا الشرقية) أو تلك ذات التقاليد الراسخة فيها، مثل الولايات المتحدة. يأتي هذا الجدل غربيًا، فيما يستمر العالم العربي، على الرغم من الإخفاقات والنكسات، في نضاله من أجل ولوج النادي الديموقراطي، وتحطيم أسطورة "استثنائية" الحالة العربية، والمزاعم التي سادت الأكاديميا الغربية بشأن "التناقض الجوهري" بين الإسلام والثقافة العربية والديموقراطية.
تم العمل على بناء هذه الأسطورة عقوداً خلال فترة الحرب الباردة، لكنها تكرّست بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والشاهد الأهم عليها كان كتاب صموئيل هنتنغتون "الموجة الثالثة" (1991) تناول عملية التحول الديموقراطي في نحو 35 بلداً في آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، على اعتبار أن الموجة الأولى امتدت نحو قرن بين عامي 1828 و1926، فيما استغرقت الثانية عقدين 1943 - 1964 وكان مسرحها الرئيس أوروبا الغربية. وبعد أن درس شروط وظروف نجاح هذه الموجات وحدّدها، خلص أستاذ هارفرد الشهير إلى النتيجة التي غدت، حتى وقت قريب، مسلّمةً في الأدبيات السياسية الغربية، وهي أن المنطقة العربية تتميز بخصائص فريدة، تجعلها عصيةً على التحول الديموقراطي. وظلت هذه الأفكار تسود الأكاديميا الغربية عقودا، ولم يسلم منها صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، فرانسيس فوكوياما، الذي قال بالانتصار النهائي للرأسمالية والديموقراطية الغربية، لكنه استثنى منها العالم العربي - الإسلامي، على اعتبار أن لدى هذا العالم قيماً ثقافية ودينية وبنية فكرية ومجتمعية لا تسهل عملية التحول الديموقراطي، وتجعلها تقبع باستمرار خارج السياق التاريخي المعاصر.
فتحت ثورات الربيع العربي الباب على مصراعيه أمام إعادة النظر بكل المزاعم المتصلة بعلاقة الديموقراطية بالثقافة والدين والدولة والمجتمع في العالم العربي - الإسلامي، والتي صار ينظر إليها باعتبارها تمثل جوهر "استثنائيته". لكن هذه الاستثنائية المزعومة لم تبدأ في حقيقة الأمر بالظهور إلا بين منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، مع بدء التحول الديموقراطي في جنوب أوروبا (البرتغال بعد شواريز، وإسبانيا بعد فرانكو، واليونان بعد حكم الكولونيلات) وفي أميركا اللاتينية (الأرجنتين 1983، والبرازيل 1985). ومع اكتساح الديموقراطية كوريا الجنوبية وتايوان في أواخر الثمانينيات، بدأت هذه الاستثنائية تأخذ منحًى أكثر حدّة، خصوصاً وأن هذه البلدان كانت تمرّ بظروفٍ مشابهة لظروف العالم العربي - الإسلامي (حروب، تخلف، فقر، ديكتاتورية، وتسلط الجيش على الحياة السياسية). ثم راحت هذه الاستثنائية تأخذ أبعاداً ثقافية ودينية مع تبني دول أفريقية التعددية السياسية، بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، ما جعل الحالة العربية - الإسلامية شبه فريدة. قبل ذلك، كان العوز الديموقراطي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً، جزءاً من حالةٍ عامةٍ يعيشها العالم الثالث في ظل نظام الثنائية القطبية، وسيطرة "الريل بولتيك" على السياسة الدولية.
لكن ظهور تجارب ديموقراطية، وإن تعثّرت أحيانًا، في دول إسلامية، مثل باكستان وبنغلادش وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، أثبت أن الإسلام والديموقراطية يمكن أن يتعايشا، ما جعل العرب يبدون كأنهم المكون الثقافي الوحيد المتبقي خارج سياق التحول التاريخي الكبير، سواءً في ظل الأنظمة الأكثر علمانية (سورية والعراق والجزائر) أو ذات التوجهات الإسلامية (السودان). لكن، مع اندلاع ثورات الربيع العربي سقطت كل أساطير "الاستثناء" العربية، اذ تبيّن أن العرب، كغيرهم من الأقوام، يقدّرون عاليًا قيم الحرية، ويسعون إلى نظم سياسية تمثيلية أساسها القانون. المفارقة، أنه عندما قرّر العرب أن ينتفضوا، بعد أن ظل الغرب يعيب عليهم أنهم لا ينتفضون، وقف الغرب إلى جانب الاستبداد، أو صمت على جرائمه، بزعم أن الديموقراطية العربية تأتي بقوى غير ديموقراطية (إسلامية) إلى السلطة، ما يعني أن الحالة العربية ما زالت استثنائية، إذ ترفض الديموقراطية عن طريق ممارستها، فأي نفاقٍ هذا؟