العراق بعد البرلمان المنحل.. إلى أين؟

العراق بعد البرلمان المنحل.. إلى أين؟

25 يوليو 2018

عراقيات يتظاهرن في كركوك ضد تزوير الانتخابات (16/5/2018/الأناضول)

+ الخط -
اعتباراً من منتصف ليل الثلاثين من شهر يونيو/ حزيران 2018، دخل العراق فترة فراغ تشريعي، لغياب البرلمان في ظرفٍ لا زالت الإشكالات المتعلقة بالانتخابات العراقية تلقي بظلالها على المشهد السياسي في العراق، بل وحتى على آليات عمل الدولة، ذلك لأن الحكومة تحولت، من منتصف تلك الليلة، إلى حكومة تصريف أعمال، أي حكومة بدون صلاحيات تنفيذية تتعلق باتخاذ قرارات مصيرية، كل ما تتمكّن هذه الحكومة القيام به هو تصريف شؤون الدولة من نواحي الأمن والصحة والتعليم والخدمات. تفيد المادة 64/1 من الدستور العراقي، العامل حالياً، بأن الحكومة تتحول إلى حكومة تصريف أعمال بحل البرلمان، لذلك لا يحق لهذه الحكومة الآن، ولا لرئيسها، اتخاذ أي قراراتٍ مصيريةٍ صعبة، يتعلق بها استثمار سياسي أو أمني. بمعنى آخر، فإن رئيس مجلس الوزراء، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، قد كفّت يده عن اتخاذ قراراتٍ تتعلق باستخدام القوات المسلحة، بما يتجاوز تسيير أمورها اليومية ليس أكثر.
وهنا أيضاً من المهم بيان أن منصب مؤسسة رئاسة الجمهورية المكونة من الرئيس ونوابه قد تحولوا بدورهم إلى مرحلة تصريف الأعمال، أي أن المبادرة من مؤسسة الرئاسة قد تجمّدت هي الأخرى، ولم يبق بيد الرئيس إلا تصريف المهام البروتوكولية لا غير.
إذن، دخلت الدولة العراقية اليوم بمؤسساتها الدستورية مرحلة سباتٍ فعلي، لغياب الصلاحيات عن ركنين مهمين من مثلث السلطات، فكيف ستتدبر هذه الدولة أمرها، وكيف ستتعامل مع قضايا ملحة، يتعلق بها حسن سريان المهام الوظيفية للدولة التي لم تستعد عافيتها منذ الغزو والاحتلال الأميركي عام 2003، وما تلاه من تغلغل النفوذ الإيراني وتجذّره من جهة، وتفشّي الإرهاب بمختلف مسمياته، داعشياً كان أو مليشياوياً.
لتحليل هذه الواقع، ووضع أيدينا على السبب وراء هذه الحالة السلبية التي يعيشها المجتمع العراقي وحكومته، من المفيد التعرّف على توصيف مختصر للحالة العامة، بعد الانتخابات التشريعية التي أضافت مشكلة كبرى للمشكلات التي يعاني منها العراق.
اتسمت هذه الانتخابات بسماتٍ مهمةٍ غير مسبوقة في الانتخابات السابقة، يمكن بيانها بما يلي:
1. إنها انتخابات جوبهت بمقاطعة واسعة النطاق، حيث لم يشترك في الانتخابات من وجهة 
نظر الحكومة الحالية إلا نحو 44% من الناخبين الذين حدّثوا سجلهم الانتخابي، وهؤلاء لم تتجاوز نسبتهم 50% من الذين يحق لهم الانتخاب حسب تكهنات مصادر عديدة، فالنسبة الحقيقية إذن لمن شارك بالانتخاب لا تتجاوز 22% من الناخبين، وهي نسبة لا يمكنها أن تعبر عن التوجهات الحقيقية للمجتمع العراقي الذي يبدو كأنه ضاق ذرعاً بوجوه العملية السياسية الحالية، المتشبثين بالسلطة بقوة وبشغف، خشية فقدانهم امتيازاتهم الهائلة من جهة، وتعرّضهم للملاحقة القانونية، على خلفية ارتكابات من قبيل الفساد وإساءة استخدام السلطة، أو حتى تشكيل منظمةٍ مسلحة خارج القانون أو الانخراط بها.
2. إنها انتخابات شابتها شواهد وشكوك تزوير واسعة النطاق، عبرت عنها دوائر عديدة ذات علاقة، وقد اتهمت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بأنها متورّطة في عمليات التزوير على نطاق واسع، وقد أكدت هذه الشكوك عمليات حرق صناديق الاقتراع في جانب الكرخ من بغداد الذي خزنت فيه بطاقات الاقتراع. على أثر تشكيل لجنة للتحقيق في الأمر، كانت المفوضية العليا للانتخابات قد وضعت تحت دائرة الاتهام.
3. دخل البرلمان العراقي على خط رافضي النتائج، ذلك أن أغلبية أعضائه الحاليين لم يُعَد انتخابهم، ومنهم رئيسه ونائب الرئيس ووجوه عديدة (مرموقة) هيمنت على العملية السياسية والتشريعية عقدا ونصف العقد، هو عمر العملية السياسية الحالية. وقرّر هذا البرلمان حل المفوضية العليا للانتخابات، وتحميلها مسؤولية التزوير الحاصل، وطالب بإعادة الفرز والعد اليدوي لنسبة 10% من الأصوات، ثم طلب إعادة الفرز الكامل للبطاقات الانتخابية، بل وطالب بإلغاء نتائج هذه الانتخابات، وإعادة إجرائها بعد فترة.
4. أدلى رئيس الوزراء، حيدر العبادي، هو الآخر بدلوه، وأكد حصول الانتهاكات والتزوير، وطالب بأن يتم تدقيق نتائج الانتخابات والتحقيق في الانتهاكات والاتهامات بالتزوير، علماً أن قائمة رئيس الوزراء جاءت الثالثة في الانتخابات، على عكس ما تم في الانتخابات التي كان سلفه، نوري المالكي، يستحوذ فيها على أصواتٍ كثيرة بشكل غير مشروع (قارن بين انتخابات 2014، حيث حصل على أكثر من ثمانمائة ألف صوت، وهذه الانتخابات التي حصل فيها على نحو مائتي ألف صوت).
5. وأخيراً، هاجم رئيس الجمهورية، هو الآخر، مدّعي التزوير، لأن حزبه (الاتحاد الوطني الكردستاني) متهم بتزوير نتائج الانتخابات في كركوك، تحت تهديد سلاح بيشمركته واستحواذه على نصف أصوات محافظة كركوك من دون وجه حق.
6. وهنا تدخلت المحكمة العليا، وقرّرت أخذ مسؤولية تنفيذ العد والفرز اليدوي، بإشراف جهاز قضائي، شكلته هي بهدف التدقيق في نتائج هذه الانتخابات، وصحة ادعاءات التزوير من عدمها.
ألقت هذه الحقائق بظلالها على الوضع العراقي الداخلي حالياً، فالمحكمة العليا لم تصادق حتى
 الآن على نتائج الانتخابات المعلنة بسبب الاتهامات بالتزوير. ولذلك، من السابق لأوانه قيام أية تحالفات لتشكيل الكتلة الأكبر التي سيعهد إليها بتشكيل الحكومة، حيث إن نتائج العد والفرز اليدوي قد تغير من النسب التي حصلت عليها هذه الكتلة أو تلك، خصوصاً على ضوء النتائج المتقاربة للكتل الثلاث: سائرون (مقتدى الصدر)، الفتح (هادي العامري المتبنّى من إيران وزعيم مليشيا بدر الإيرانية)، والنصر (حيدر العبادي وحلفاؤه). من المفيد الإشارة إلى أن كتلة سائرون نتجت عن تحالف بين التيار الشيعي (العروبي) الذي يتزعمه الصدر والتيار المدني الذي يتزعمه الشيوعيون، وللطرفين عدد متقارب من المقاعد. من هنا، لوحظ تذبذب التحالفات، فمرّة يتحالف الصدر مع العبادي وعلاوي، ومرّة يفاجئنا بالتحالف مع خصمه ومنافسه، هادي العامري، وربما مع عدوه نوري المالكي). وهنا لا بد من الإشارة إلى الضغط الذي مارسه قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بل والمرشد الإيراني علي خامنئي، حيث بعث الأخير نجله مجتبى خامنئي، ليفرض التحالف بين "سائرون" و"الفتح"، ثم ليفتح فضاء تحالف شيعي، تسعى إيران إلى إعادة الحياة إليه، تحت اسم "الفضاء الوطني".
هنالك حقيقة ينبغي أخذها بالاعتبار، هي أن إيران الفاعل الأكثر تأثيراً على الأرض في العراق، عبر مليشياتها، نجحت في هذه الانتخابات بأن تأتي بقائمة ربيبها هادي العامري (يحمل الجنسية الإيرانية) ثانيةً، وقد بدأت المليشيات تهدّد بما يشبه الحرب الأهلية، إذا تم منع قائمتها من تشكيل الحكومة. وفي الوقت نفسه، فإن ضغط إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على إيران في سورية، واحتمال طردها من هناك، والانتكاسات التي يواجهها الحوثيون في اليمن، والضغوط على أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، ستجعل من العراق الساحة الأخيرة التي ستقاتل فيها إيران دفاعاً عن أيديولوجيتها ونفوذها، خصوصاً على ضوء التظاهرات الشعبية التي اندلعت في إيران أخيرا، بسبب تراجع قيمة صرف الريال الإيراني، ورفع المتظاهرين شعارات مناهضة للتدخل الإيراني في اليمن وسورية وفلسطين، من دون الإشارة إلى العراق. يدفع هذا كله باتجاه إصرار طهران على تولي هادي العامري رئاسة الوزراء تعزيزاً لنفوذها، على الرغم من أن السجل الوظيفي لهذا الرجل يكتنفه الفشل والفساد، عندما تولى حقيبة وزارة النقل في وزارة المالكي الثانية (2010 - 2014).
إنها جملة حقائق تلقي بظلالها على المشهد السياسي العراقي حاليا، بعد انتهاء ولاية البرلمان الثالث بعد الاحتلال، وهي:
1. الإرباك الذي أحاط بالعملية الانتخابية ونتائجها ودعاوى التزوير التي انتشرت على نطاق واسع، وقد دعمت المحكمة الاتحادية العليا خيار العد اليدوي، وبُدئ بالفعل بالفرز والعد اليدوي في محافظة كركوك، حيث يدّعي العرب والتركمان أن الاتحاد الوطني الكردستاني مارس التزوير على نطاق واسع، وحصد نصف المقاعد من دون وجه حق، وبما لا يتلاءم مع الثقل السكاني الكردي في المحافظة المختلطة. وقد أظهرت النتائج الأولية التي تسرّبت عن فحص صناديق الاقتراع يدويا في قضاء داقوق (جنوب كركوك)، ذي الأغلبية التركمانية، تراجع
أصوات الاتحاد الوطني الكردستاني بنسبة لا تقل عن 50% عن المعلنة، وذهب الفرق لصالح الجبهة التركمانية والقائمة العربية. وبالنسبة إلى بغداد والموصل والأنبار، وهي مناطق شهدت، هي الأخرى، عمليات تزوير، فإن العد لم يبدأ بعد، مع الإشارة إلى أن صناديق بغداد قد تعرّضت للحرق. وتجعل كل هذه الحقائق من التكهن بما ستؤول إليه الأمور عمليةً معقدة.
2. سيزيد تحول حكومة حيدر العبادي إلى حكومة تصريف أعمال من عدم كفاءة الأداء الذي صاحب هذه الحكومة التي لم تنجح في دفع الوضع الداخلي إلى الاستقرار، لغياب القوة والحنكة لدى رئيس الوزراء وفريقه من جهة، وللتدخلات الإيرانية عبر السفارة الإيرانية والمليشيات الإيرانية من جهة أخرى. لذلك، لن تتمكّن هذه الحكومة إذا ما استمرت في السلطة، من تحقيق أي انطلاقةٍ تساعد الحكومة المقبلة على النجاح في مهمة جمع أشتات المجتمع العراقي من جديد، تحت مظلة المواطنة العراقية أولاً.
3. سيجعل وجود مقتدى الصدر على رأس قائمة "سائرون" رئيس الوزراء المقبل، إذا ما نجح التكتل الأكبر الذي تقوده "سائرون" في تشكيل الحكومة، أسير مزاجية مقتدى الصدر، وهو الذي ستلقي عمامته بظلال طائفية مباشرة، أو غير مباشرة، على شكل الحكومة، على الرغم من مناداة الصدر بتشكيل تحالف عابر للطائفية والإثنية.
4. من ناحية أخرى، ستبقى مشكلة المليشيات المسلحة التي اتخذت من الحشد الشعبي مظلة رسمية تتلطى تحتها تشكل التحدي الكبير لأي رئيس حكومة يتم اختياره على أسسٍ لا طائفية، ومن التكتلات البعيدة عن إيران. لذلك، التحدي الأكبر لرئيس الحكومة المقبل هو حل الحشد الشعبي، وإلغاء هياكله القيادية، لكي لا يبقى مبرّرا للمليشيات بالتصرف وإرباك الوضع الأمني، أو الابتزاز السياسي تحت تأثير السلاح. حصر السلاح بيد الدولة شعار مرفوع بل ومقر، لكن المليشيات انضوت تحت خيمة الحشد الشعبي، للإبقاء على سلاحها ونفوذها. من هنا، سيكون هذا هو التحدّي الأكبر الذي سيجابه رئيس الحكومة المقبل، لبسط هيبة الدولة وسلطتها على كل أرجاء التراب العراقي، وهنالك شكوك جدية في قدرته على تحقيقه.
5. سيبقى الفساد الذي تحول إلى ما يشبه الكيان المؤسساتي غير المنظور ينخر بإمكانات الدولة، ويحد من قدرتها على وضع المعالجات اللازمة لحل المشكلات والأزمات التي تحيق بها. هنالك دلائل دامغة على أن رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، مسؤول مباشرة عن تبديد المال العام بوجه غير شرعي، من دون أن تكون للحكومة قدرة على مجرد الإشارة إلى ذلك ولو إيماءً. حل قضية الفساد تستدعي أن لا يكون هنالك من هو فوق القانون، ولأن وجوه العملية السياسية الحالية متورّطون بشكل شبه جماعي في الفساد، لذلك فإن رئيس الوزراء القادم لا بد أن يكون وجهاً من خارجها، غير متورّط ولا ملتزم بكتلة متورطة بالفساد، لكي ينفذ برنامج مكافحة الفساد، تتولى أمره سلطة قضائية نزيهة هي الأخرى.
سيصعب على المراقب توقع ما ستجيء به الأيام المقبلة من مواقف، وسيبقى النظر إلى الإقليم مجالاً للتنبؤ بما يمكن أن يحصل للعراق. وهنا، فإن ما سيحصل للنظام الإيراني الحالي سيلقي بظلاله سريعا على الوضع السياسي العراقي.
08A6C6A7-5596-4EDC-ACA9-A8FCF4C66DBF
عبد الوهاب القصاب

خبير عسكري، وكاتب وباحث، ضابط سابق برتبة لواء في الجيش العراقي