فرنسا.. كأس العالم والهوية الوطنية

فرنسا.. كأس العالم والهوية الوطنية

22 يوليو 2018

لاعبو المنتخب الفرنسي يحتفلون بكأس العالم في موسكو(15/7/2018/Getty)

+ الخط -
فازت فرنسا، في سنة 1998، لأول مرة بكأس العالم لكرة القدم، بمنتخب كان خلطة "هجينة" ومبتكرة للهوية الوطنية الفرنسية، أو على الأقل نسخة من هوية وطنية لم يتعود عليها الفرنسيون، وخصوصا اليمين، من أقصاه إلى أوسطه، وربما مع بعض من يساره. وبعد هذا الحدث بأقل من عقد، في سنة 2007، عمد الرئيس نيكولا ساركوزي، بعدما فاز في الانتخابات، على خلاف ذلك الدرس الذي قدّمته "فرنسا الكرة"، إلى إحداث وزارة للهوية والهجرة، تنفيذا لوعد أخذه على نفسه في برنامجه الانتخابي. وقد كان ذلك ابتكارا فرنسيا لأسبابٍ عدة، لعل أهمها هاجس الخوف على الصفاء الهووي والنقاء الوطني، ثم تم إدماجها لاحقا مع وزارة الداخلية، ووُضع لها مال وعسس وعتاد، حتى تظل فرنسا كما هي جوهرا سرمديا لا تشوّهه تحولات التاريخ، ولا مجرى الأحداث. في كل الحالات، لم تكن تلك النسخة التي قدمها منتخب فرنسا، الفائز بكأس العالم آنذاك، متطابقة لفرنسا 'البيضاء" ولا "المسيحية" كما يشتهي اليمين الفرنسي أن يراها، فلقد كان اللاعبون بيضا وسمرا وسودا، من ذوي أصول مسلمة ومسيحية، أفارقة وأوروبيين. ومع ذلك، كانوا يخشعون وهم ينصتون إلى نشيد لامرسياز، على الرغم من أن بعضهم تلعثم في ترديده. ها هي فرنسا نفسها، وبعد عقدين، تفوز ثانية بكأس العالم، بفريق آخر، يعيد تلك الهجانة والخليط. ولكن بدلالات أخرى، هذه المرة، وفي سياقات مغايرة.
مرت عشرون سنة على ذلك التاريخ، انزاحت فيها فرنسا تدريجيا إلى اليمين، وهو الذي حقق نسبا غير مسبوقة في معظم الانتخابات التي نظمت منذ أكثر من نصف قرن. هناك من يعتقد 
أن الأمة الفرنسية تمت صياغتها على نحو مغاير من تلك اللحظة التي فازت فيها فرنسا بكأس العالم سنة 1998، حيث قدمت فرنسا صورة لهويتها على نحو آخر من خلال الحضور المكثف للفرنسيين من ذوي البشرة السوداء. كلنا نتذكر ذلك الجيل الذي كان فسيفساء حقيقية من زين الدين زيدان ذي الأصول الجزائرية إلى تورام وتغوركاييف إلى كريستيان كارمبو إلخ ... لم يكن إيمي جاكي مجرد مدرب وطني، بل كان أبا روحيا للجميع، مؤمنا بأنه يقف على تجربةٍ نادرةٍ، تساهم من موقع نادر وطريف في تشكيل هوية كروية لأمةٍ تكلست هويتها بحكم فائض هووي مغلق. تفيد شهادات عديدة، وحتى الحوارات التي أجريت مع الرجل بأنه لم يكن يقود منتخبا فحسب، بل كان يعي تماما أنه يقدم نموذجا للاندماج، وهوية متخلصة من صفائها العرقي والديني والثقافي. تفعل الكرة أحيانا ما تعجز عنه السياسات، ويغذّي اللعب بسيولته وحيويته المتدفقة شريان الهويات المتصلبة.
لم يكن الأمر سهلا، فقد تعوّد الجمهور والرأي العام الكروي والسياسي أن يرى لاعبين سود البشرة، ولكن في فرق وطنية أفريقية أو من أميركا اللاتينية. ولعله يشاهد أول مرة فريقا، بحضر فيه الملونون بمثل ذلك، تحت راية بلد أوروبي، خصوصا أن فرنسا قامت على تجربة متشدّدة في إدماج المهاجرين، مختلفة عن نماذج أخرى أكثر انفتاحا وتعدّدا على غرار ألمانيا وبريطانيا وهولندا.. إلخ. ولكن ها هي فرنسا، وهي على ما عليه، تقدّم نموذجا مغايرا بفضل أولئك السود من أبنائها، حين استطاعت أن ترفع كأس العالم. كان احتفال فرنسا في شوارع باريس، وتحديدا في ذلك الشارع المهيب، شانزيليزيه، ميلادا لصفحة جديدة من تاريخ فرنسا المتعلق تحديدا بالاندماج والهوية الوطنية.
ما الذي تغير بين تلك اللحظة والنسخة الجديدة من الكأس التي فازت بها فرنسا أخيرا، أي بعد عقدين من الفوز الأول. عرفت فرنسا أحداثا عظاما مؤلمة ومفجعة في مجملها. كانت الهجمات الإرهابية التي استهدفتها مرات (شارلي إيبدو، نيس، ...) علاوة على موجات عديدة من الهجرة غير الشرعية التي تسللت إليها أهم ما عاشه الفرنسيون خلال تلك المدة الفاصلة بين الحدثين. كانت الترجمة السريعة لهذه التحدّيات الأمنية هي التي صاغها أقصى اليمين، وأقنع بها أوساطاعديدة، تعاني بدورها من أزمات اقتصادية حادة. وقد تزامن ذلك مع تراجع اليسار، واختفاء بعض تعبيراته تقريبا (الحزب الشيوعي الفرنسي والتيار الإنسانوي عموما)، أي آخر محميات المُثل الإنسانية النبيلة. في مقابل هذا التراجع المريب، نمت أطروحات تشدّد مجدّدا على بناء هوية فرنسية على شاكلة قلعة منيعة في ظل خوف أهوج إلى حد الرهاب من الأجانب، في مناخ من الخوف وشعور دائم بالتهديد.
أثارت صور متداولة للحفل الرسمي الذي نظمه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في إحدى 
أجمل حدائق قصر الإليزية بمناسبة استقبال أبطال العالم تعاليق عديدة، إذ يرى بعضهم أن اللاعبين الفرنسيين من ذوي البشرة السوداء كانوا على الهامش، أو على الخلف. وقال آخرون إن هذا فريق أفريقي، لكن أطرف الردود هي التي تقول إن هؤلاء لو اجتمعوا في أي بلد أفريقي فلن يفوزا بكأس العالم، لأنهم لن يجدوا الإمكانات أولا وثانيا، لأن المدرب سينتقي بعضهم على قاعدة المحسوبية والولاء. وقد يفرط في مواهب فذة، كما أن الميزانية ستصرف على السهرات الليلية التي لا علاقة لها بالكرة، علاوةً على أوجه عديدة من الفساد. لذلك فهؤلاء "صناعة فرنسية خالصة".
ستظل كأس العالم لسنوات حاضرةً في أذهان الناس من خلال التعاليق وذكريات كثيرة، هي ليست بالضرورة تحليلات فنية، فكأس العالم بازار واسع للقيم والمعاني والرموز. تنتهي النتائج، ويرفع فريق واحد الكأس، لننتظر دورة مقبلة. ينسى الناس بعض الأهداف والحركات الرشيقة في هذه الدورة أو تلك، ولكنهم لن ينسوا بسرعة رئيسة كرواتيا، وما نسجت عنها من حكايات لا تخلو من غرائبية، هي مزيج من القداسة والشيطنة. ولا زالت قصص تروج بغزارة عن اللاعب الكرواتي الذي يقال إنه كان في صغر سنه راعي أغنام في أحد الجبال المعزولة التي كانت مرتعا للذئاب النادرة. الكرة هي مصباح علاء الدين الذي يمنح المجد لمن يشاء ويذلّ من يشاء. كما ستظل تلك الصورة التي كان ماكرون يتوسطها بين لاعبين فرنسيين ملونين، وهو تحت راية تفيد ألوانها مثلثا عميقا من المبادئ: الحرية، المساواة والإخاء تثير مختلف التعاليق. كل المؤشرات خارج الملعب توحي أن الاتجاه العام يسير في فرنسا وأوروبا عامة في نقيض حاد مع تلك المبادئ وتلك الصورة. عليك أن تكون بطلا أو خارقا للعادة حتى تكون فرنسيا: المالي الذي أنقذ طفلا استحق الجنسية، واللاعبون الذين رفعوا كأس العالم استحقّوا كل ذلك المديح، اعترافا بمواطنيتهم، أما من دون ذلك، فهم أجانب يستحقون كل ذلك الصد.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.