البرتقالي الساخر، الغاضب والبذيء

البرتقالي الساخر، الغاضب والبذيء

22 يوليو 2018

منطاد في لندن في مظاهرة ضد زيارة ترامب (13/7/2018/Getty)

+ الخط -
تمكّن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الإفلات من عشرات آلاف المتظاهرين الممتعضين من زيارته المملكة المتحدة، زاعما أن البريطانيين "الحقيقيين" يحبونه، على الرغم من الشعارات والهتافات الكارهة له. تم تصميم برنامج الزيارة بحذق، حتى لا يقع نظر ترامب على الشوارع المكتظة بالحشود الشاتمة، ليبقى على يقينه أن كل شيء على ما يرام، ويدّعي، في تصريحاته، أن العلاقات بين البلدين لا يمكن أن تكون "أكثر خصوصية" وأعلى مستوى مما هي عليه. البلاد المنقسمة على نفسها بسبب الجدال بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي احتفلت بالغضب والضجيج والسخرية، حتى لتكاد تشكر الرئيس الشعبوي على منحها فرصةً ثمينةً كهذه، لاستعادة حيوية الشارع.
لم يحصل أن نزلت حشود بهذا الحجم (عشرات الآلاف) إلى الشارع، احتجاجا على زيارة رئيس دولة أجنبية. هل توقع ترامب ترحيبا كهذا في لندن، ليضبط إيقاع تصريحاته الوقحة على مستوى الشتائم التي تلقاها؟ كانت شعبويته في أفضل تجلياتها، إذ وجه باقة من الانتقادات والشتائم في كل الاتجاهات، من انتقاد خطة رئيسة الوزراء تيريزا ماي للانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد الأوروبي نفسه إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى نظام الصحة العمومي البريطاني ورئيس بلدية لندن صديق خان، وهو أحد الأهداف المفضلة لشتائم ترامب. ضخّت تصريحات ترامب الجدلية الحماسة في متطرّفي "بريكست"، المطالبين بالقطيعة الكاملة مع الاتحاد الأوروبي، إذ منحهم، في مقابلة لصحيفة "ذي صن" واسعة الانتشار، ذخيرة كاملة للحشد، خصوصا بعدما أسبغ المديح على أبرز وجوه هذا التيار وزير الخارجية المستقيل، بوريس جونسون، الغريم الأول لرئيسة الوزراء، تيريزا ماي، قائلا إن بوريس كان "داعما جدا جدا لي". عاد ترامب، وسحب تصريحاته الناقدة لماي، ليقول إن المقابلة التي نشرتها الصحيفة اليمينية من "الأخبار الكاذبة". كان لا بد من وردة للصديق جونسون، بعدما أبدى إعجابه بترامب في تسجيلاتٍ مسرّبة، مؤكدا أنه لا بد من وجود "طريقة ما" خلف كل هذا الجنون الترامبي.
استعاد الشارع حيويته، ليلاقي الضيف الزائر برسالةٍ من لسان حاله. ضجيجٌ شعبوي من 
السخرية والغضب والبذاءة. هل بات ترامب يختصر كل بشاعات العالم، ليثير هذا الكم الهائل من الكره؟ لون الشارع برتقالي: بالونات برتقالية تحمل شعار "إرم ترامب في القمامة" (دامب ترامب)، رأس برتقالي بشفاهٍ ممطوطة، مقلوبة، مزمومة، أو بأنف مثلث عل شكل خنزير. ارتدى أحدهم زي دبٍّ برأسٍ برتقالي، وسجن نفسه خلف القضبان في قفص. حوّل آخر ترامب إلى منصة ملاكمة، موجها اللكمات إلى الرأس البرتقالي. اختار ثالث أن يستعير رأس ترامب، لتجسيد شكل عضو ذكري. وضعت نساء شعرا مستعارا أشقر على رؤوسهن عل شاكلة بياض ترامب. العنصري الأول في العالم طفل وحيد يستحق أن يكون في قفص (في اشارة إلى الطفل ترامب)، البالون الساخر المحلق في سماء العاصمة "احتفاءً" بالضيف. اذهب إلى القمامة. أين الأطفال. ترامب غير مرحّب بك. نرحب باللاجئين لا بترامب. ابتكار كارهي ترامب لا حدود له.
خطفت التظاهرات الحاشدة الأضواء من الطفل ترامب، البالون المثير للجدل الذي أطلقه المتظاهرون احتجاجا على زيارة ترامب. نال البالون أكثر ما يستأهل من الجدل واهتمام الصحافة، اذ لا توازي وقاحة البالون الساخر مستوى الكراهية التي عبر عنها المتظاهرون. برّر عمدة لندن، صديق خان، السماح للطفل ترامب البالون بالتحليق في سماء لندن بعدم الرغبة بممارسة الرقابة على المتظاهرين. تحوّل الطفل ترامب إلى مناسبةٍ لمستنكري وقاحة المتظاهرين، وما قد تسببه هذه الوقاحة من ضررٍ محتمل على "العلاقات الخاصة" في مرحلة ما بعد "بريكست"، في حين اعترض بعضهم على ما اعتبروها معايير مزدوجة لعمدة لندن الذي سبق أن منع صور نساء بالبيكيني في وسائل النقل العامة، من باب منع الإعلانات التي تحمل رسائل غير واقعية عن الجسد والصحة المثاليين. على الرغم من الاعتراضات، حلق الطفل ترامب في سماء لندن، وعرف طريقه إلى إسكتلندا، على الرغم من قرار الشرطة منع تحليقه، ليصبح التحفة السياحية الأكثر جاذبيةً في الأيام الأخيرة.
قدمت بريطانيا مشهدا شعبيا لا مثيل له، لم يشهده ترامب في أي من جولاته في العالم. إنه 
كرنفال المقاومة. فاجأ العدد الهائل من المتظاهرين المتظاهرين أنفسهم، وأظهر عمق التباين بين شريحة واسعة من الرأي العام والطاقم السياسي والإعلام الذي لم يفهم ما يجري حوله، وبقي مراوحا مكانه، مكرّرا سؤاله المتظاهرين عن خطر "إهانة" الرئيس الأميركي القوي، من دون أن يحاول أن يفهم بالعمق ما يريده المتظاهرون. ولكن ما يريده هؤلاء بالفعل؟ اعتبرت "ذي ديلي ميل"، الصحيفة الشعبوية واسعة الانتشار والداعمة الأولى لحجة القطيعة مع الاتحاد الأوروبي، أن المتظاهرين جلبوا العار على بلادهم، عبر إهانة الحليف الأقوى، ووصفتهم بأنهم حفنة من اليساريين. لم يكن هؤلاء جزءا من أي انقسام سياسي بين اليمين واليسار، بل مجموعة ملونة من كل الفئات والأطياف. نساء قرعن على أطباق الطهو لإثارة الضجيج. حمل بعضهن أطفالهن الرّضع، استجابة لدعوة الحركة النسائية، ناشطو حركات مناهضة العنصرية ومجموعات حقوقية مثل "أمنستي"، وأخرى للدفاع عن البيئة، وحركات الدفاع عن مثليي الجنس ومتحولي الجنس، وغيرها إلى جانب مشاركين عاديين.
تحولت زيارة ترامب لندن مناسبة للتضامن والصراخ في وجه عالم بشع، لم يعد بالإمكان تحمل تبعاته، وبات شخص ترامب ممثله الأبرز. يكاد الحشد المحتفل بحيويته أن يقول: شكرا ترامب.
وما همّ ترامب إن شتمه آلاف البريطانيين، طالما أنه احتسى الشاي مع الملكة، وجلس في كرسي تشرشل؟
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.