أحلامٌ وأحكامٌ وابن خلدون

أحلامٌ وأحكامٌ وابن خلدون

21 يوليو 2018
+ الخط -
الحالمون أملُنا في التّغيير؛ جملة تُقال في مدح الحالم الذي يوصم بالسذاجة أحيانًا، وعدم الواقعية، وكأنّ هذه الأخيرة صفة إيجابية؛ فالحالمون هم الأكثر قدرة على السّعي إلى التغيير من الواقعيين الذين تم تدجينهم، ولم يعد الغد في نظرهم سوى اليوم نفسه مكرّرًا؛ هذه المقولة تجد مكانًا لها على أرض الواقع، وتنطبقُ على حراك الحسيمة في المغرب؛ وموقف مغاربة كثيرين منه، أولئك الذين لا يفهمون لمَ خرج المحتجّون شهورا، وبذلوا كل شيء لأجل التغيير على الرغم من أنه ليس مطلبا هينا أن تتغير عقلياتٌ تقصي مناطق من البلاد من عجلة التنمية كسلًا منهم، أو لأنها لا تملك جاذبية سياسية، ذلك أمر جلل. وصحيحٌ أنهم لا يملكون ما يخسرونه (معظمهم) لكن مناطق أخرى عديدة في المغرب يملك أهلها أقلّ، بل بتعبير أدق، لا يملكون شيئًا على الإطلاق، حتى الأمل، ومع ذلك لم يخرجوا إلا لمامًا، ولوقت وجيز، مثلما حدث في زاكورة أخيرا. هكذا يقول الواقعيون المغاربة عن حراك الحسيمة.
الفرق أنّ الحراك في الحسيمة، الحالم بإمكانية التّغيير، والساعي إليه، بزغ في منطقة لها تاريخ يغذّي ذاكرتها؛ ولم يأت مقتل بائع السمك محسن فكري إلا ليؤجّج جذوة الحلم داخلها. كان الرّماد كثيفًا، لكن الجذوة متقدة، وتنتظر ريحًا مناسبة، ترفع الرماد، وهكذا كان، فحوّل الشباب في المدينة التظاهر من احتجاج ضد الاستهانة بحياة مواطن، ذنبه سعيٌ حثيث إلى لقمة خبز في غياب بدائل، أو فرص عمل لائقة؛ فردٌ بسيط قاوم مافيا السّمك، لينتزع من بين أنيابهم رزقًا قليلًا، يضمن حياة كريمة؛ لتكون النّهاية مأساوية بذلك الشكل الذي شاهدنا جميعًا، وانتقلوا من التّنديد بوأد حلم فرد إلى الاحتجاج على اغتيال أحلام شباب مدينة.
هي احتجاجاتٌ سلمية، حضارية بل ومبدعة، وكان يمكن أن تمرّ في سلام، وتحاورهم الدولة، ويعودون بنفَس إيجابي، وربما يساهمون في التغيير، وقد يصبحون أداته. لكن هناك فهما آخر للأمور، هناك من اختار منطق المواجهة، منطق القمع، فكثرت اعتقالات الشباب، وساد الخوف والحزن المدينة الصغيرة، لتأتي الأحكام السياسية التي صدرت في حقهم ثمنا غاليا للحلم، وللسّعي إلى تحقيقه.
وعلى الرغم من تحقّق بعض المطالب، وتأكيد سعي الدولة إلى ذلك، وهو اعتراف ضمني بأنّهم على حق، وأن هناك تقصيرا في تطوير منطقة، كان يمكن أن تكون بالغة العصرنة وتملك كل 
مقومات الحياة والأمل لشبابها، لم يمنع ذلك من إيقاع عقوباتٍ سوريالية عليهم، ومن تكييف تهم غريبة لتكون ملائمةً للحدث، وتضمن عقوبات ثقيلة، لا تقع حتى على القتلة والمغتصبين الذين ينالون أحكامًا مخفّفة عن ذلك.
والسبب، سياسة "مُدّ يدك اليمنى بالجزرة، واضرب بالعصا باليسرى" بقسوةٍ لا تُنسى؛ سياسة تعود إلى الوراء حقوقيًا عقودًا. وتتطلب نقاشًا وطنيًا بشأن مسألة الحقوق والحرّيات السياسية التي يضمنها الدستور، وتخرقها وزارة الداخلية، ولا يتفق معها القضاء الذي أظهر أن الاستقلال الذين نسعى إليه حلم بعيد، في تكييفٍ غريب للقانون، تكييفٍ يذكّرنا بالمدارس القانونية الأولى التي عرفها القانون الجنائي.
وجدتُ مادة القانون الجنائي، حين درستها في السنة الأولى في كلية الحقوق، طريفةً للغاية، ليس فقط في إمكانات التّكييف القانوني للسّلوك العدواني، الغربية لمن يقرأها أول مرة، بل أيضا في المدارس التي عرفها هذا القانون، وكيف أن المدرسة الوضعية مثلًا ذهبت إلى أن هناك ثلاثة أنواع من البشر، فئة مجرمة بالفطرة يجب إقصاؤها حالًا "بكل ما تعنيه الكلمة"، وفئة لها نوازع عدوانية، يجب نفيها إلى حيث لن تشكّل خطرًا على المجتمع، وفئة قد تكون لها ميول إلى العنف، وهذه أيضا تُنفى اتقاءً لتصرّف مستقبلي، قد يجعلها تُفرغ هذا الميل في سلوكٍ عنيف تجاه المجتمع. ومن يبقى فيه؟ فئة قليلة من "الأصفياء"، وافهم أنت المعنى، وكيف يمكن بهذا الفهم نفيُ بلدٍ بكامله، بما أن كل إنسان "قد" تكون له سلوكاتٌ عنيفة إن استُفز. وكيف أننا عدنا إلى الوراء بتكييف فعلٍ ينصّ الدستور على كونه حقا، على أنه نية في المساس بالدولة، والدعوة إليه تآمر.
هذه المدرسة هي ما اقتدت به المحكمة التي حكمت بعقوباتٍ أشبه بالمنفى، فحين تحرم شخصًا من حريته، وتضعه خلف القضبان عشرين سنة، هي أجمل سني حياته، ماذا أبقيت له؟ وبناءً 
على ماذا؟ على استنباط النيابة العامة نيات المحتجين التي اعتبرتها تمسُّ أمن البلاد، وتشكل تآمرًا عليه، فقط لأنهم خرجوا في مظاهراتٍ ينص الدستور والقانون على أنها جزء من حقوق الإنسان التي يضمنها كلاهما، وأن تُكيّف عدم حمل علم البلاد على أنه دليلٌ على ميول انفصالية، والخروج للتظاهر تآمرًا على أمن البلاد!
ويطرح التوقيت الذي أُصدرت فيه الأحكام بعد تمطيط المحاكمات سنة كاملة أسئلة كثيرة، بحيث لم يتزامن مع ذروة المقاطعة، بل بعد خفوت صوتها، ومع شعور شعبي نسبي بالرضا، لكونه هزم ثلاث شركات كبرى؛ ووسط مباريات كأس العالم، الأمر الذي سيخفّف الانشغال بها ردود الفعل الشبابية ضد الأحكام.
لا يعود المغرب بهذه الأحكام فقط إلى سنوات الرصاص، بل إلى قرونٍ أبعد على المستوى القضائي، حيث الإنسان مجرد رقم، والأحكام لا تطارد ضمائر النّاطقين بها، وحيث لا اعتبار للمجتمع، ولا حرص على سمعة البلاد الحقوقية، وحيث الإنسان، مرة أخرى، رقم يتم التّضحية به ليكون عبرة لغيره، وحيث الحكم القضائي يصبح قرارًا سياسيًا.
وطبعا، هناك بلدان متقدّمة، للإنسان فيها مكانة تليق بإنسانيته، والقضاء هو السلطة الأكثر انشغالا بحمايته. أما عندنا فإن كان لدينا شك في أن القضاءُ "حامي الحريات والحقوق"، يكرّس خرقها، فقد تأكد الآن. وبدل أن يُعيد الأمور إلى نصابها، وينتصر للحق في الاحتجاج، وينظر بعين الاعتبار للظروف التي دفعت بعض المحتجين إلى التهور (ناصر الزفزافي)، باعتبارها عوامل تخفيف؛ أصدر أحكامًا ظالمة، ولن أقول قاسية، لأنّ الأصل أن لا يُعتقلوا، أن لا يُحاكموا، وأن لا يقضوا أجمل أيام حياتهم خلف القضبان، بعد أن قضى كثيرون منهم السنة التي مرت في زنازين انفرادية.. الأصل أنهم الحالمون، جسرنا نحو الغد، نحن الواقعيين غير الجدد، في تاريخٍ يدور حول نفسه، كما رأى ابن خلدون، ولا يتّعلم من أخطائه، بل يعيدها بشكل أسوأ.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج