هل كان الانقلاب في مصر حتمياً؟

هل كان الانقلاب في مصر حتمياً؟

03 يوليو 2018
+ الخط -
لكي تنجح الثورات يلزمها بيئة دولية مساعدة، ولم يهتم الغرب بنشر الديمقراطية في عالمنا العربي بسبب النفط وإسرائيل، ولما ضغط جورج دبليو بوش على الحكام العرب للانفتاح السياسي بعد أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001 وغزو العراق، تراجع عن ذلك سريعا تحت ضغوط لوبيات النفط وإسرائيل واليمين المتشدّد، خصوصا بعد صعود الحركات الدينية في الانتخابات الحرة التي انتظمت في العالم العربي بين عامي 2005 و2006، ولذلك تراجعت أميركا سريعا، وقللت من تمويلها برامج نشر الديمقراطية في العالم العربي، وهي سياسة حافظ عليها الرئيس التالي، باراك أوباما، في بداية حكمه.
ولذا فاجأت الثورات أميركا، وتردّد أوباما في دعمها، خصوصا في مصر، لكنه رضخ في النهاية للثورات، وسعى إلى عدم الوقوف ضدها، غير أنه لم يفعل الكثير لدعمها، فلم تطور أميركا استراتيجيةً تذكر لدعم الديمقراطية في العالم العربي بعد 2011، حيث ظلت منقسمة بشأن دعمها الديمقراطية من ناحية، ودعمها إسرائيل والديكتاتوريات النفطية، ورغبتها في الانسحاب من المنطقة بصفة عامة، من ناحية أخرى.
ترك تراجع الدور الأميركي الثورات تحت نفوذ متنامٍ لقوى إقليمية، في مقدمتها دول الخليج الثرية وقوى إقليمية كتركيا وإيران، والتي انقسمت حول الثورات، ولم تستطع القوى الإقليمية الداعمة للتغيير في مصر مواجهة نفوذ دول أخرى معارضة له، كالسعودية والإمارات خصوصا، وأن مؤسسات الدولة العميقة في مصر، وفي مقدمتها القوات المسلحة، لم تقف مع الديمقراطية والتغيير.

ربما دعمت القوات المسلحة، وهي العمود الفقري للنظام السياسي المصري منذ 1952، ثورة يناير في أسابيعها الأولى، لامتصاص غضبة الجماهير المنتفضة من ناحية، وشعورا بالتهميش خلال السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك من ناحية أخرى، لكنها لم تمتلك تاريخا في دعم الديمقراطية، فسعت خلال المرحلة الانتقالية إلى إعاقة التحول الديمقراطي، والسيطرة على السلطة قدر الإمكان، ساعدها على ذلك انقسام القوى الداعمة للثورة، وافتقارها أي برامج جادة لإعادة تأهيل المؤسسات الأمنية والحكومية ديمقراطيا، وسرعان ما استعادت تلك المؤسسات توازنها، مستفيدة من شبكة علاقاتها الراسخة بقوى النظام القديم، ومن الدعم الإقليمي الرافض للتحول الديمقراطي في مصر.
ولم تمتلك مصر اقتصادا أو نخبا اقتصادية قادرة على مواجهة عودة الاستبداد، فالرأسمالية المصرية توصف بالمشوهة، لأنها تأسست، منذ الانفتاح الاقتصادي في نهاية السبعينيات، على علاقة قوية تربطها بالنظام الاستبدادي، وعلى مشاريعها الخدمية والاستهلاكية وغياب العدالة الاقتصادية، وكذلك غياب أي مساع جادة لبناء قاعدة صناعية متقدمة في مصر، ولذا ترتبط النخب الاقتصادية كثيرا بالنظام، وتدور في فلكه، ولم تدعم الثورة، أو تطالب بها، وسرعان ما اصطفت خلف الانقلاب العسكري المدعوم إقليميا، والذي لم يلق معارضة دولية تذكر.
ولم تمتلك القوى السياسية الداعمة للثورة مؤهلاتٍ كافيةً للتعامل مع الانتقال الديمقراطي ومتطلباته الصعبة، وما يتميز به من ضبابية وعدم تأكد، واضطرابات سياسية، ومطالب شعبية وتخبط سياسي، فالأحزاب التقليدية تحولت، منذ عقود، إلى ديكور سياسي، والقوى الدينية لم تمتلك خبرة تذكر في إدارة الدولة، والتعامل مع ملفات التحول الديمقراطي الصعبة، كما لم تملك مؤسسات إعلامية وبحثية وسياسية تذكر، أو قادرة على التعامل مع متطلبات التغيير، ناهيك عن انقسامها بين إخوان مسلمين وسلفيين، وانخراطها سريعا في صراع مع النخب العلمانية أو المدنية بشأن هوية الدولة والسيطرة على السلطة.
أما القوى المدنية والشبابية، فكانت أكثر ضعفا وتفتتا، فبالإضافة إلى عدم امتلاكها الخبرة والمؤسسات والقواعد الجماهيرية، تميزت بقدر كبير من التّحزب والاستقطاب والدوران في فلك بعض الشخصيات القيادية غير الجماهيرية، حيث عجز شخصٌ كمحمد البرادعي (أبرز قادة هذه القوى والقادم من خلفية دبلوماسية وإقامة طويلة في الخارج) عن التحول إلى قائد جماهيري، أو تأسيس أي كيان سياسي قوي بعد الثورة، سوى حزب صغير استقال منه سريعا.
أما قوى المجتمع المدني المصرية، كالنقابات ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية، فقد عانت جميعها من المشكلات السابقة، كدوران بعضها في فلك السلطة أو القوى السياسية أو الانقسام السياسي والإيديولوجي، ناهيك عن غياب الإمكانات والجذور الشعبية والجماهيرية.
ولم يكن الحال أفضل وسط المثقفين والرأي العام، حيث غابت الثقافة الديمقراطية بصفة عامة، وافتقرت الغالبية إلى الوعي بطبيعة مراحل التحول الديمقراطي، وما تتميز به من اضطرابات وضبابية، وأهمية الصبر عليها ومحاربة الانقسام السياسي، وإعادة تأهيل المؤسسات والمجتمع للانتقال الديمقراطي، أضف إلى ذلك ضعف ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان على كل من المستوى، الجماهيري والثقافي والسياسي، حيث لم يلتفت الرأي العام كثيرا إلى قضايا أساسية، كإخراج القوات المسلحة من السياسة، ونشر ثقافة الحريات السياسية، وحرية الإعلام/، وإعادة تأهيل القوى السياسية، كما وقع بعض أشهر المثقفين المصريين في فخ تأييد انتهاكاتٍ فجّة لحقوق الإنسان بعد الانقلاب العسكري، رافعين شعارات الديمقراطية والليبرالية في وجه خصومهم المتدينين.
ومنذ البداية، رفع المتظاهرون في الشوارع (يوم 28 يناير) شعاراتٍ ترحب بتدخل الجيش في السياسة، وتؤكد على وحدة الشعب والجيش، وتركت القوى السياسية للجيش إدارة الفترة الانتقالية ولم تصبر على بعضها، أو انقسمت إيديولوجيا وسياسيا، وانشغلت بالصراع على السلطة في وقتٍ عانت فيه من ضعف مؤسسي واضح.
في ظل تلك الظروف، يبدو أن نجاح الثورة المصرية كان مستبعدا، إن لم يكن مستحيلا، وأن الانقلاب العسكري عليها في يوليو/ تموز 2013 كان النتيجة الأكثر منطقية، وربما حتمية في ظل الأوضاع الدولية والإقليمية، وداخل مؤسسات الدولة المصرية والنخب الاقتصادية والسياسية والرأي العام، ويصبح التفاؤل بنجاح الثورة أملا أو حلما جميلا، لا تدعمه البراهين وشبكة العلاقات وموازين القوى داخل مصر وخارجها.

ويبدو أن تفاؤل بعض المثقفين والمعارضين والجماهير بإمكانية نجاح الثورة كان حلما غير منطقي، ولا يستند إلى براهين كافية، ويتجاهل أن التغيير في أي مجتمعٍ يقوم على عاملين رئيسيين، وهما قدرة الفاعلين الرئيسيين على إدارة التغيير من ناحية، وبنية المجتمع واستعداده للتغيير من ناحية أخرى. وفي مصر لم يتوافر العاملان تقريبا، فبنية المجتمع وموازين القوى داخله وشبكة العلاقات مالت بقوة لصالح الاستبداد الذي بناها على عينه عقودا منذ الاستقلال، أما القوى السياسية فكانت أضعف من أن تدير مشهدا بتعقيدات الثورة المصرية، أو أن تواجه بنية المجتمع الاستبدادي وداعميه الدوليين.
وهذا لا يعني أن الاستبداد قدر أبدي لمصر، فالمجتمعات تتغير باستمرار، ومصر جزء من عالم وإقليم يتغيران باستمرار، ويمر العالم حاليا بفترة تراجع ديمقراطي، ويمر الإقليم بتحولات سياسية واقتصادية صعبة، كما تعيش مصر فترة مخاض اقتصادي وسياسي صعبة، يعجز فيها النظام الاستبدادي الجديد عن تحقيق التقدّم الاقتصادي والسياسي والمجتمعي المطلوب، كما تعيش القوى السياسية والرأي العام محنة قاسية.
تعني العوامل السابقة أن مصر تعيش مخاضا عسيرا، لن يقود بالضرورة إلى الديمقراطية، فالديمقراطية ليست حتمية، لكنها ستفتح البلاد أمام رياح التغيير السلبي والإيجابي معا، ولعل أفضل ما يمكن فعله حاليا لمساعدة مصر على التحول نحو الديمقراطية، ولو تدريجيا، هو الانخراط في أي عمل جاد، يضع تحسين أوضاع مصر السياسية هدفا له، بشرط أن يتحلى بالواقعية، وأن يركز على فهم الواقع المصري وموازين القوى وشبكات المصالح التي تحكمه، وإلا غرق في الأحلام أو المبالغة في ما يمكن أن تحققه النخب والتصورات السياسية، من دون شبكة قوى ومصالح تدعمها.