المغرب.. جرف خلاسي ما بين البحر والمحيط

المغرب.. جرف خلاسي ما بين البحر والمحيط

19 يوليو 2018
+ الخط -
أجدني في أحلامي هائما في المغرب، وطوّافا بأزقّته. المغرب كمحارة ناعسة في البحر، مليئة بالأسرار، أو كجرف أحمر ما بين البحر والمحيط، أحبه كمتاهة لرجال، مثل ابن بطوطة، أو كسؤالٍ هاربٍ في كتابات عبد الفتاح كيليطو التي لا تشبع من الأسئلة، من دون أن تقدم أي جواب ساذج، أو كثعبان يحمل حكايات البحر والصحراء (من الممسوسين والأولياء والدراويش) معا في زكيبة من زكائب البرقوق، أو كأغنيةٍ حزينةٍ شارفت على الموت، وهي في قمة الأمل من حنجرة "ناس الغيوان"، مبحوحة بالعذاب والشجن ولقمة العيش.
أحبه كضياع الحب في أغاني نجاة عتابو، أو كقطعتي سكر ومر يخرّان من فمهما، من دون أن أعرف التأويل ومرامي الغمز في الأغنية. أحب المغرب في بسطاء محمد شكري، من الناس والنساء، بعدما خرجوا وخرجن على الأعراف بعفوية الفن والحياة معا، من دون أن يقصدوا شيئا سوى العيش والفرح، تلك الكتابات التي أحببناها ولم نستطع أن نقاوم فتنتها، وجوعها للغرام.
المغرب طاقة حبيسة في جرفٍ أحمر، محصور ما بين البحر والمحيط وغواية الأحلام، حلمي بالسفر إليه والسكن فيه، أنا الذي ما تمنّيت أن أسكن حتى لبيت صغير عرق فيه جسدي أسابيع من حمْل الطوب، والنظر إليه وأنا أبنيه، أنا الذي ما نظرت يوما إلى المراكب التي في البحر بأشرعتها مسافرة، ولا للطائرات. فقط أراه في أفراح البسطاء وأغانيهم، حينما يودّعون عرسانهم على الأعتاب بالحناء والبخور والذبائح. أفراح من نسيج الناس وهمومهم وأرزاقهم ومعاشهم وعاداتهم، متمسّكة بالطبيعة والجذور. المغرب أراه في دموع العربي باطما الأخيرة، في ذلك الكتاب الجميل الذي منحني إياه الراحل أسامة خليل، بكل كرم، قبل أن يموت ويسافر عاشقا للمغرب.
المغرب هو تلك العمامة المباركة الجميلة ما بين البحر والمحيط التي جعلت بول بولز يصاحبها ستين سنة، تاركا الغرب لميكنته، وهوس انتصاراته وقنابله، محتميا من هول العالم، بدخانه وغليونه وموسيقاه وكتبه وترحالاته المشوقة والطبيعة وأصحابه من الصيادين والحكائين والندماء والضيوف، ضيوف روحه، وجعلتني أقرأ "سماء واقية" و"شاي في الصحراء"، وكم حاولت حتى أن أعرف عذاب حياته، من دون أن أصل إلى شيء، فالأسرار دائما دفينة في بطن جبل.
يذكّرني المغرب دائما بأرواح الهائمين في العالم، من دون أن يهتموا بكسب أو خسارة، سوى تركهم سيرهم، بعدما ظلت أرواحهم قلقة من دون أن تجرحها سلطة، أي سلطةٍ كانت في الأرض، تذكّرني بروح جان جينيه، وسيرته الصلبة بعدما ارتاح جسده في العرائش. كيف اختار ذلك العصيّ المتعب هذا الخيار الأخير؟
المغرب هو كنزي البعيد، ذلك الكنز الذي حاول فيه من قبلي الكاتب الراحل، عبد الحكيم قاسم، أن يحج إليه ويطوف، ذلك الكنز المدفون في صدر "زبيدة"، تلك التي تكبر دائما ولا تشيخ.