المتاهة الإنكليزية

المتاهة الإنكليزية

19 يوليو 2018
+ الخط -
تعيش بريطانيا، في هذه الفترة، حالة من التخبط السياسي والاقتصادي، لا تحسد عليها، وتجتاز أزمة صعبة، تتعلق بخيارات المستقبل التي طرحها الاستفتاء قبل عامين، عندما رجّح كفة المطالبين بالخروج من الاتحاد الأوروبي. وتبدو المؤسسات الرسمية وغير الرسمية منهمكةً كليا بإنجاز ترتيبات الخروج المقرّر في مارس/ آذار المقبل.
مر عامان على "البريكست"، ولم يُنجز شيء، وتبدو كل الخطوات معلقة، على الرغم من أن رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، نجحت، في منتصف الأسبوع الماضي، في التوصل إلى أول وثيقة رسمية ترد على أسئلة الاتحاد الأوروبي بخصوص تنظيم العلاقات المستقبلية، على صعيد حركة تنقل الأفراد والسلع بين الاتحاد وبريطانيا، في الاتجاهين، إلا أن الوثيقة التي حملت عنوان "العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي" لا تكشف تفاصيل كثيرة عن هذا المستقبل، وهي لا تتعدى كونها ورقة خطوطٍ تفاوضيةٍ عريضة.
تبدو لندن من قريب ضحية لتوجه خاطئ، وأنها ليست بحاجةٍ إلى خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومن تابع التداعيات خلال عامين يصل إلى قناعةٍ بأن الذين كانوا يقفون وراء هذا القرار، من بين الساسة، لم يدرسوه جيدا. وبدأ الأمر على شكل مزحةٍ، وصار أشبه بورطة، لا أحد يعرف الطريق للخروج منها بأقل الأثمان. ومع مرور الوقت، يتأكد أن الفاتورة باهظة جدا، وخصوصا على المستوى الاقتصادي في المدى المنظور.
كان بوريس جونسون، وهو أحد قادة حزب المحافظين (الحاكم) من بين الذين تصدّروا حملة الخروج من الاتحاد، وحين نجح الاستفتاء لصالح الخروج لم يجد ما يقول بصدد خطة اليوم الثاني، وما هو برنامج المعارضين لأوروبا؟ ولهذا، فإن المركب البريطاني يترنّح منذ ذلك اليوم، وقد قفز منه جونسون في لحظة حرجة، واستقال الأسبوع الماضي من وزارة الخارجية، تاركا رفاقه من حزب المحافظين يحاولون ترقيع الثقوب.
مثال بوريس جونسون كثر في أوروبا اليوم. ساسة شعبويون وجدوا أنفسهم في مراكز القيادة بين ليلةٍ وأخرى، وخصوصا من أوروبا الشرقية التي لم تقدم شيئا للاتحاد، ووصلت إلى ما هي عليه بفضل أوروبا الغربية التي دفعت الفاتورة الكبيرة، وبشكل خاص فرنسا وألمانيا وإيطاليا، والمؤسف أنه بعد القامات الكبيرة، من قياس هلموت كول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك وغريهارد شرودر، وصلت أوروبا إلى حضيض رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان الذي يخوض حربا ضد المهاجرين في العالم، مسلحا بإيديولوجية رجعية معادية للأجانب، ومحمولة على شعبويةٍ تعمل على تجييش جماهير اليمين العنصري ضد ما وصفها "ظاهرة أسلمة" أوروبا.
كانت لندن قبل عشرين عاما مدينةً تعاني من أوضاع صعبة في البنى التحتية ومعدلات النمو. ومع رفع الحواجز أمام الأوروبيين، تحولت إلى مدينة مفتوحة، وقصدتها نخبٌ أوروبيةٌ ساهمت في تطورها اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، حتى صارت مختبرا أوروبيا فريدا للاندماج، بسبب التدفق الأوروبي الكبير في اتجاهها، لكنها انكمشت فجأةً، وساهمت المرويات الملفقة التي ظهرت من جوارير استفتاء "بريكست" في إفساد نكهتها الخاصة، وتحولت فجأة من أرض استقبال أوروبي إلى مدينة تنكمش على نفسها في وضعيةٍ لم تعرفها عاصمة الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.
هذا الارتداد الرهيب سببه مزاج عنصري، ترعرع داخل بيئة اقتصادية صعبة، ووجد له حاضنة داخل أحزاب بلا أفق، على الرغم من أنها في سدّة الحكم، مثل حزب المحافظين الذي ينتمي إليه بوريس جونسون. وينسحب هذا الأمر على فرنسا وألمانيا وإيطاليا التي باتت محكومةً من اليمين الفاشي.
تعيش لندن في متاهةٍ سببها سياسات الحزب اليميني الحاكم الذي قادها إلى "بريكست"، وعجز بعدها عن تقديم البديل، وصار اليوم غير قادر على الرجوع نحو الخلف، ليكمل الطريق داخل أوروبا، وليس في وسعه تحمل تبعات خيار القطيعة النهائية التي ينشدها تيار أنصار "بريكست".
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد