العرب في مهب الريح

العرب في مهب الريح

19 يوليو 2018
+ الخط -
انخرط في أثناء مباريات كأس العالم في كرة القدم، العديد من وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، في التعليق على نتائج الترشح لاستقبال مونديال 2026، حيث جرى التنافس على الموعد المذكور، بين ثلاث دول من أميركا الشمالية والمغرب. وفاز مرشحو أميركا الشمالية، بتزكية ودعم من بلدان عربية كثيرة، منحت أصواتها للولايات المتحدة.
لم أتبين في النتائج المحصَّلة، ما يدفع إلى الحديث عن خيانة الأخوة العربية ومقتضيات التضامن العربي، ولا الحسابات المرتبطة بصوَر الصراع السياسي الدائرة رحاه بين بعض دول الخليج.. كيف عادت مفرداتٌ من هذا القبيل إلى عناوين الرأي في بعض الصحف العربية، وقد تجاوز ما عوين في بعض الوسائط الاجتماعية حدود اللباقة واللياقة، فامتلأت مواقع بمهاترات وشتائم كثيرة، كاشفة عن هشاشة العلاقات العربية العربية، وبؤس مفردات التضامن العربي.
لا يُفهم من نتائج التنافس ما يشير إلى ما اتجه كثيرون ممن عبّروا عن آرائهم إلى ذكره، ذلك أن شروط التنافس على تنظيم محفل رياضي تحكمه، داخل دوائر الاتحاد العالمي لكرة القدم (فيفا) جملة من المعايير المُرَتَّبَة بخبرة وعناية، والمرتبة أيضاً، بحسابات سياسية واقتصادية معقدة كثيرة. وكان المتمنى أن ينتبه الذين انخرطوا في تبرير هذا الموقف أو ذاك إلى ما آلت إليه الأوضاع العربية، مشرقاً ومغرباً.
تكشف الملامح العامة لواقع الحال في العالم العربي تَنَصُّل أغلب البلدان العربية من الطموحات والتطلُّعات التي كانت سائدةً في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث تواجه أغلب الأنظمة فشل سياستها العامة، وفَشَل خياراتها في التحرُّر والتضامن والتقدّم.
تُظهر المعطيات أعلاه عدم قدرة النخب السياسية العربية على مواجهة مصيرها التاريخي. وقد كنا نفترض أن الانفجارات التي أطاحت بعض الأنظمة العربية قبل سنوات ستمكّن ما بقي من 
الأنظمة من ابتكار الوسائل التاريخية المناسبة، لمغالبة صور التردّي والتراجع التي تزداد استفحالاً في أغلب البلدان العربية، إلا أن ما لوحظ من انتعاش للطائفية وروح القبيلة، وما صاحب ذلك من عودة إلى العقائد القطعية والفكر الإرهابي، وضع العرب أمام نفق مغلق. يُضاف إلى ذلك، فشل الأنظمة العربية السائدة في بناء علاقات توافقية مع القوى الإقليمية، وهي قوى بيننا وبينها تاريخ مشترك، يقضي بابتكار أساليب في التعاون بدل التباعد. فنتج من ذلك صراعٌ إقليميٌّ غذّته، خلال العقود الأخيرة، معارك داخل كثير من بلدان المشرق العربي، الأمر الذي زاده حِدَّة، فأصبحنا اليوم لا ندري حدود الحسابات الجارية بيننا وبين القوى الإقليمية المحيطة بنا، بعد أن أصبح لبعضها في ديارنا موقع ومكان، فكيف لنا أن نفكّر في نتائج الترشيح لكأس العالم في كرة القدم سنة 2026، ولا نفكر في التردّي العام الذي أصبح عنواناً كبيراً لأحوال مجتمعاتنا؟
تعرّضت العروبة، وتعرَّض المشروع القومي منذ نحو أربعة عقود، لضربات قوية، في لحظة بدأ فيها الحديث عن إمكانية تبلور الملامح الكبرى لمشروع قومي ديمقراطي، يتجه إلى نفض اليد من بقايا "البعث" في صيغتيه، العراقية والسورية، بعد استنفادهما الروح التاريخية التي شكلت منطلق تصوراتهما.. وفي مقابل ذلك، أصبحنا نتصوَّر أن العروبة المِوَاطِنة أفقٌ جديدٌ يستجيب لأسئلة مجتمعنا ومخاضاته. ويعدُّ نشوء تجمعات إقليمية عربية من ثمار التحولات التي عرفها المشروع القومي، حيث نشأت مؤسسات التعاون الإقليمي في الخليج وفي المغرب العربي، وهي مؤسساتٌ لم تستطع الانتصار على عوائقها، وصُوَّر الخلل التي سرعان ما حَوَّلَتْهَا إلى تنظيمات بدون أفق، ولا فعل، ولا أثر..
تهيمن اليوم على أغلب المجتمعات العربية حالة من الارتباك، تنذر بما هو أسوأ، نفكر هنا 
بالضبط في أحوال العراق وسورية واليمن وليبيا، كما نفكر في التحوُّلات الحاصلة في دول الخليج، حيث تَمَّ تعليق مؤسسات مجلس التعاون الخليجي، مثلما تَمَّ تعليق اتحاد المغرب العربي. لنفكر أيضاً في التحوُّلات التي تعرفها القضية الفلسطينية، حيث لا أحد يتصوَّر اليوم ما هي بالضبط الشعارات الموجِّهة لمواقف الفصائل الفلسطينية من القضية، ومما يُحَاك ضدها بين القوى الدولية الداعمة لإسرائيل.
يمكن استعمال مجازات أخرى لتوصيف الحال العربي، من قَبِيل إبراز صوَّر تلاطم الأمواج مشرقاً ومغرباً، حيث تهب الريح لتدفع الأشقاء في اتجاهات متناقضة، تدفعهم إلى حروبٍ بالوكالة، وإلى تخندقات تنسيهم مآلاتهم الموجعة، في العراق وسورية واليمن وليبيا، وفي فلسطين قبل ذلك وبعده، حيث تحصل العجائب والغرائب باسم المصلحة والتاريخ، باسم التَّبَعِيَّة والوَهَن، وعَمَى البصر والبصيرة. فمتى نوقف هبوب الرياح العاتية؟ بل من يملك اليوم القدرة على إيقافها؟

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".