الأردن.. ابن خلدون والثقة بحكومة الرزاز

الأردن.. ابن خلدون والثقة بحكومة الرزاز

19 يوليو 2018
+ الخط -
تُستعاد نصوص ابن خلدون، لتبرير نهج الجباية... هذا ما رآه بعض أعضاء مجلس النواب الأردني، حين ذكّرَ رئيس الوزراء، عمر الرزاز، في بيان حكومته النواب والشعب بابن خلدون، مستيعداً نصّاً خلدونياً في موضوع إدارة المُلك والدولة، والتي عمادها العدل والجند والمال، وفسّرها الرزاز بالاعتماد على الذات وحماية الكيان الوطني والعدالة.
هذا الاستحضار، بعد بيان حكومي منيع لغوياً، ومثقل بالوعود والأمنيات التي لم يقطع الرزاز بضرورة إنجازها كلها، ظهر وكأنه هدف يسعى إليه بجدٍ واجتهاد، بيد أنّ استحضار ابن خلدون، سليل سنوات الأزمة الحضارية عربياً وإسلامياً وابن زمن الانهيار، لم يمر دون نقد من النواب الذين رأوا في ابن خلدون شخصية انتهازية سعت، ذات زمان، إلى طلب وظيفة من التتار، حين حاصروا دمشق على يد تيمورلنك، كما رأوا أن في مقدمته نصوصا أهم من حديث الجباية والجند، ومن ذلك الحديث عن مراقبة العمال وخراب العمران ومراقبة العمال والولاة.
ولكن عمر الرزاز لم يغفل عن التذكير بالظرف الاستثنائي الذي جاء بحكومته، والذي شابه زمن ابن خلدون في الانهيار الاقتصادي وصعود الهويّات الفرعية وقلة المال المتحصل للدولة، وميل الناس إلى الدِعة والإنفاق أكثر من الدخل، وتلك الظروف في زمن الرزاز ألقت حكومةً سابقةً إلى الإقالة، إثر حراك شعبي، حسم نهايتها من فاتهم قطار العدالة في الفرص والشباب الذين ضربهم الملل، في انتظار الأفضل والوعود. وقد جاء هؤلاء من الأطراف، ولم يكونوا سكان عمّان وحسب، كان معظمهم من جيوب الفقر والجوع، ومنهم من لا يملك شيئاً، وفي كل خطوة إلى عمّان يتخيلون العاصمة غابةً يأكل الفاسدون فيها أحلامهم، ويكسرون أرواحهم التي استكانت للانتظار، ومنهم موظفون في بنوك ومؤسسات خاصة، راقت لهم استعادة الربيع العربي بنسخة جديدة، بيدَ أن مجيء الرزاز أوقف تدحرج كرة اللهب الشعبي.
قدّم الرزاز، في بيانه الحكومي، لغة محترمة، لكنها مثالية، وتأتي في زمن صعب. وقد تكون 
النيّات عنده صادقة بالإصلاح والتحديث، فهو شخصية حداثية، لكن ما سيظهر منه بشأن ما تواجهه حكومته من تحديات كبيرة، وطريقة الاستجابة لها، هو مربط الفرس.
بعد أيام من سجال نيابي بشأن طرح الثقة بحكومة الرزاز، إن المواطن الأردني الذي قال عنه عمر الرزاز، في بيانه الحكومي، إنه ملّ وأًثقل كاهله، تعوّد الخيبات، وسبق أن سمع بكتاب التكليف السامي لحكومة هاني الملقي، والذي كان عنوانه تحسين الخدمات، ولم يلمس المواطن شيئاً من ذلك، وكانت الأيام الأخيرة لحكومة الملقي دليلا على أن تململ الناس من سوء الخدمات بداية الانهيار، وأنّ ارتفاع منسوب السخرية هو عنوانٌ لغضب أكبر.
يتذكّر الأردنيون زيارة الملك عبدالله الثاني إلى الأغوار الجنوبية أواخر مايو/ أيار الماضي، وتحديداً يوم الإضراب الشهير في 30 منه، وهو الإضراب الذي أنهى حكومة الملقي، ولنتذكّر زيارته مستشفى البشير، وكيف وجد الخدمات متدنيةً، وهي مماثلةٌ في كل المستشفيات. ولنتذكّر إهمال حكومة الملقي ضحايا حادثة صوامع العقبة، وكيف تُرك الجرحى والضحايا وذووهم من دون تواصل حكومي إلى ما بعد الحادثة بأسبوع. آنذاك، كانت حكومة الملقي تلفظ الأنفاس، وآنذاك تقول المصادر إن رئيس الديوان الملكي السابق، فايز الطراونة، طلب نائب رئيس الحكومة جمال الصرايرة في ألمانيا حيث أبلغ الطراونة الصرايرة أن الحكومة يجب أن ترحل، وأن على الصرايرة إبلاغ الملقي بذلك، فما كان من الصرايرة إلا أن اعتذر عن المهمة، وقال له الطراونة تصرّف بالأمر، فعاد الصرايرة وطلب من الرزاز إبلاغ الملقي، وهو ما حدث.
في ظل هذه الوقائع، فإن ما كسبه الرزاز وتعلمه من تلك الدروس يبدو أنه كافٍ لتعلم العبرة، وعدم السقوط بمحرقة انعدام الحدس والشعور مع الناس، فدفعته المخاوف من الغضب الشعبي إلى زيارة حي الغويرية في مدينة الزرقاء، وعودة مصابي حادث انهيار إحدى عمائرهـا، وقبل ذلك كان في الحدود الشمالية على وقع انفجار الجنوب السوري، وحتى الآن يبدي الرئيس استجابةً جيدةً لمكامن الغضب الشعبي وتداركها.
قد يملك الرزاز راداراً جيداً في استشعار الغضب الشعبي، فهو عميق وذو نفس طويل، ناعم
 ومرن، لكنك لا تعلم بماذا يفكر، وماذا يمكن أن يقرّر، وهو يحب منح الناس الفرص، حتى ولو بالأمل الطويل. ولكن حكومته مثقلةٌ ببعض أعضاء فريقها المكشوف للجمهور، بقلة خبرته في المطبخ الأردني والشأن العام. وهنا يقفز السؤال ماذا يفعل رئيس حداثي، بفريقٍ عقلياتُه جلها محافظة، وجاؤوا بصحبته من دون رغائبه التي أعلنها، وعبر عنها في لقائه الأول مع النواب بعد تكليفه؟ هنا تصبح الحكومة نتيجة استحقاقات شتى في التمثيل، وقليل منها كان خياره، ولعل هذا ما دفعه إلى تسريب فكرة التعديل المبكر لمواجهة انتقادات الشارع والنخب على شكل الحكومة.
يقول العارفون بالرزاز إنه لن يكرس إلا الأخلاق السياسية التي لطالما غابت عن الساسة في مثل موقعه اليوم، فهو مأمون الجانب بها، وهي (أي الأخلاق) تعنيه أكثر من أي رهان، فهو لن يخسر ذاته، لكنه قد يخسر الموقع لأجل الأخلاق والتزاماته التي قطعها، وهنا ينتصر كل من لا يريد التغيير الإيجابي الذي يعكسه الرزاز، فكراً وروحاً.
في المحصلة، ستمضي حكومة الرزاز بعد الثقة بها أمام مجلس النواب، والأرجح أنها ستعيش مع مجلس النواب الأردني الثامن عشر بقية مدته، لكن السؤال اليوم ليس عن مدة الحكومة وبقائها، بل فيما يمكن أن تُحدثه من أثر وطني في التحديث ومكافحة الفساد وتحقيق التنمية، وكل هذا يصطدم بواقعية سياسية معقدة ووضع مالي معقد.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.