الماضي يأتي غداً

الماضي يأتي غداً

18 يوليو 2018

(سبهان آدم)

+ الخط -
همست بصوت مرتجف: هناك شبحٌ يطاردني.. اعتقدت أنها تعاني من حالة نفسية، بحيث يخيل لها مثل ذلك، لكنها أردفت بصوت أكثر ارتجافاً، وبدموع حارّة حولت وجهها إلى لوحة سوريالية مع الكحل الأسود السائل من عينيها: الماضي هو الشبح الذي يطاردني، ليس ماضياً خاصاً بي، ولكنه الذي اقترفه غيري، والآن أدفع ثمنه أنا.
تعرّفت على شاب، هو زميلها في الجامعة، وجمعتهما علاقة حب هادئة، مرت من دون منغصات، حتى انتهت سنوات الدراسة الجامعية. لم يكن يهمه خلالها سواها فلم يسألها عن أهلها ولا عائلتها، ولم يتشعب الحديث بينهما أبعد من المحاضرات الجامعية ونزق الأساتذة وغرور المعيدين الجدد. وأحياناً كانت تحدّثه عن إخوتها الصغار، وخصوصاً عن تعليق أصغر إخوتها، حين يراها ساهمةً أمام كتبها، بأنها تشبه فاتن حمامة في أحد أفلامها.
مع انتهاء الدراسة الجامعية، كان لا بد من الارتباط الرسمي، خصوصا أنه قد حصل على عمل سريع في شركة شقيقه الأكبر. ولأنه الابن الأصغر لعائلته، استطاع أشقاؤه الذين يكبرونه أن يجهزوا له شقه صغيرة ليتزوج فيها، لأن والدهم كان قد بلغ من الكبر عتياً. وعلى ذلك، لم يكن هناك ما يعيق تقدّمه لها، وطلب الزواج منها حسبما اعتقدا.
حين صارح أكبر إخوته بأنه يرغب بالزواج منها، سأله كالعادة عن اسم عائلتها، وعن أصل هذه العائلة، ومن أي القرى الفلسطينية قد هجّرت، فغزة كانت ولا زالت تعتد بأصول عائلاتها، ويعرفون طباع كل عائلة وعاداتها، من حيث الكرم أو عدمه مثلاً، وهناك نوادر كثيرة يذكرها اللاجئون عن أهل قريةٍ بعينها، اتسم أهلها بالبخل الشديد، وأخرى يتبارى أهلها بالكرم.
بمجرّد أن سمع اسمها كاملاً، استشاط أخوه الأكبر غضباً، وقفز من مكانه كأن أفعى سامّة كانت تتربص به تحت الفراش، وصاح بمقولة شهيرة، كالتي كانت تتردّد في فوازير نيللي في رمضان، حين كان يقول الأب المرسوم بالكارتون: "الجوازة دي مش ممكن تتم". وحين هتف شقيقه بهذه العبارة، وبلهجة القرية التي هجّروا منها، اعتراه الذهول، فهو لا يرى سبباً لعدم إتمام زواجه من حبيبته، لكنه حين جلس إلى جوار شقيقه الأكبر، وهو في مقام والده، أيقن أن ما يمنع زواجه من حبيبته هو شبح الماضي.
توقفت عن البكاء، وسألتني بألم: ما ذنبي أنا أن أدفع ثمن خطأ خالتي شقيقة أمي. إنها قصة قديمة، حدثت قبل أن أولد، لم أكن أعرف عنها شيئاً إلا حين صارحني هو. وذهبت لأسأل أمي، فطأطأت رأسها مؤمّنةً على صدق ما نقله لي. ما ذنبي أنا لكي تنتهي قصة حبي مع الإنسان الذي اختاره عقلي، وارتاح له قلبي، لأن خالتي قد أحبت شاباً وأخطأت معه، وقتلها أحد أفراد عائلتها، ودخل السجن عاما، ثم خرج منه مرفوع الرأس، لأنه غسل عار العائلة. ما الذي جنيت لكي يتذكر شقيقُه ذلك الماضي، ويرفض زواجه مني بسببه قائلاً: إذا أردت البنت فاسأل عن أمها.. لكن أمي حسنة السيرة، والكل يشهد لها، لكني الآن تذكّرت، وعاد شريط الذكريات ثانيةً، تذكّرت سبب فراق أمي عن أبي، بعدما أنجبتني، أنا وشقيقي. اعتقدت أنه قد فعل ذلك لعقم أمي، فتزوج بأخرى، ولكني تذكرت الليالي التي كنت أستيقظ فيها، فأسمع بكاءها وتوسلها، وأسمع صوت أبي المرعد الغاضب، وهي تحاول جاهدة أن تدافع عن نفسها من تهمة لم أعرفها.
الآن، وبعدما كبرت، يعود الماضي. الماضي الذي دفعت أمي ثمنه، والآن أدفع ثمنه أنا، هل سمعت عن شبحٍ مرعبٍ مثل هذا الذي يطاردني؟ سكتت، وسكت أنا ولم أحر جواباً. دار حديثها في عقلي، وتعالت تنهداتي. رأيتها وردة تذبل، لأننا ندوس فوق أحلامها باسم عاداتنا وتقاليدنا. تساءلت في عقلي أيضاً سؤالاً مفروغاً من إجابته: ماذا لو كانت هذه الخاطئة هي قريبة للشاب الذي أحبت، هل سيقف شبح الماضي أمام زواجها منه؟
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.