أركيولوجيا مثقف تائه

أركيولوجيا مثقف تائه

18 يوليو 2018
+ الخط -
نتحدث عن المثقف، باعتباره ذاتًا مفكرةً، تواجه الواقع بسلاح العقل، ذات منتجة، واعية بمصيرها ومصير الإنسان، في مقابل الآخر، قاصر عن إدراك ذاته ومجتمعه، غير منتج للمعرفة.
تمييز المثقف بهذه الطريقة، إقصاء للآخر، وإجحاف في حقه، دعونا نستوعب أولاً هوية المثقف، قبل الخوض في بنيته التركيبية، فالمثقف كينونة إنسانية تتحدَّدُ هوّيتُها من إيديولوجيتها أولا، فهو يفكر ويكتب، ويوجه من خلال كتاباته الفكر الإنساني، أو بعبارة أوضح، يقود المجتمع، ويرسم طريق سيره، إنه أشبه بالمهندس. فيما مضى، كان المثقف يساريا أو راديكاليا، ماركسيا أو لينينيا...إلخ، وهذه الخلفية هي التي تحدد إيديولوجيته، تصوّره لنظام الحكم، والاقتصاد، والثقافة، يكتب وينتقد لكي تصبح الدول اشتراكية أو ليبرالية.
أما العنصر الثاني الذي يحدّد هوية المثقف، هو الهوية الاجتماعية والحضارية، العيش في المجتمع، والوعي بالانتماء إليه، يشكل معالم الهوية الاجتماعية للمثقف، وفي داخل هذه البنية، ينتمي إلى فئة، بروليتاريا، برجوازية، أرستقراطية... هكذا يحدد العنصران، الإيديولوجي والاجتماعي، هوية المثقف.
هذا فيما مضى، أما اليوم، فقد اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الاشتراكية بالرأسمالية، وأصبح اليساري سلفيا، وتحول السلفيّ إلى يساريّ، ولجنا في الألفية الثالثة السوق العالمية الحرة، وانتقلنا من الديكتاتورية السياسية إلى الديكتاتورية الاقتصادية. هنا فقد المثقف المعاصر هويته، وأصبح يميل في إيديولوجيته إلى بسط أفكار السلطة، تسخير المعرفة للهيمنة على الحكم، وشرع في تبرير سلوكاتها، مهما كانت قبيحة، ومن تمظهرات ذلك في عالمنا العربيّ، ما يسمّى بالهجرة السياسية، مثقفون يستقيلون من أحزاب يمينية، وينخرطون في أخرى يسارية، بل منهم من يدافع عن السلطة والنظام من دون انتماء سياسيّ، حتى صار علامة مسجلة للتندر والسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي.
في عالمنا اليوم، ظهر مثقف جديد، إنه مثقف السلطة، مثقف يستمد أدواته من النظام، حتى إذا انهار أو خُلع، رأيته يستبدله بمن يَليه دون حرج، يغيّر مواقفه كما يغير بذلته، مستعينًا بقدرته على المراوغة، وتزوير الحقائق. ولعل خير مثال على ذلك، ما حدث إبان ثورة الربيع العربي، مثقف السلطة، أغراه البيترودولار، فوقعَ في الفخّ، تم إعلان دولة عسكرية ديكتاتورية، بمباركته، إنه مثقف السلطة، وكل همّه مصلحته الشخصية.
نخلص إلى أنّ إيديولوجيا المثقف تراجعت أمام سلطة النظام والمال، فتحول فعل المثقف في المجتمع، وتتابعت الخسائر والإنكسارات، وبتنا تحت رحمة مثقف السلطة، مثقف أباد القيم والمبادئ كما أبادت الأنظمة التي يدافع عنها شعوبها، إننا، وللأسف، وفي زمن حقوق الإنسان، نعيش مرحلة ما بعد الإنسان.
C319469C-6BD5-4D85-AB9D-747F307A129B
C319469C-6BD5-4D85-AB9D-747F307A129B
عبيد لبروزيين (المغرب)
عبيد لبروزيين (المغرب)