الحقائق مخاليق عنيدة

الحقائق مخاليق عنيدة

16 يوليو 2018
+ الخط -
الحقائق مخاليق عنيدة قاهرة؛ مهزومٌ من لا يواجهها، ومنتصرٌ من يتدبَّر أموره معها في لحظات ضعفه، بصبره وعمله وعقله، لكي يصل إلى لحظة صناعة حقائقه. حتى عام 1967 من القرن المنصرم، كان اليهود مثار شفقة. إبّان الحرب العالمية الثانية، مَنَع الأميركيون سفينة تقلّ يهوداً مستجيرين من ظلم هتلر من الاقتراب من الشواطئ الأميركية. عام 1956، ألصق الصهاينة أنفسهم بالقوة الأنكلو- سكسونية، واشتركوا في العدوان الثلاثي على مصر؛ لكن أميركا قمعتهم. تلك كانت حقائق كان على قادة اليهود مواجهتها.
صَبَرَ اليهود وعملوا وأعملوا عقولهم ليوصلوا "حقائقهم". وذاع أن إسرائيل قصفت السفينة الأميركية "ليبرتي" عام 1967، وخَرِسَ الأميركيون تجاه ذلك. قلب الأميركيون من داعمين جمال عبد الناصر ومعنّفين بن غوريون عام 1956 إلى أعداء لعبد الناصر وشامتين بهزيمته أمام "ديفيد الصغير". وديفيد صنع حقائق عنيدة.
لا أحد يستطيع إنكار تأثيراليهود على رأس المال ودورته، والعلوم وتفرّعاتها، ودهاليز السياسة بمؤامراتها وخبثها ومحفلها الأعلى القوي، المستفيد حتى من لاهوتيات تدعّم طموحات البشر الدنيوية: " قصة شعب الله المختار". حتى قصة فلسطين صوّروها "أرضاً بلا شعب لشعب بلا وطن". ضاعت قضية فلسطين بين تلك القوة وذلك الضعف والتآمر العالمي، وقلة حيلة من تصدّى للدفاع عن فلسطين من أهلها وإخوتهم.

يرتسم في أذهان سوريين كثيرين مصير الفلسطينيين، عندما يرون نصف سكان سورية يقتلَعون من بيوتهم، يُقتَلون بالآلاف، ويتبعثرون في أربع بقاع الأرض، ويحمي قاتلهم "فيتو" روسيا واسطولها الجوي. يستنجد السوريون بإخوتهم والعالم؛ فيدعمونهم بكلام كثير. وفي المحافل الدولية، تكون المباراة في اللعب بقضيتهم. والأخطر والأغرب من كل ما حدث لسورية والسوريين أن أحفاد الصهاينة الذين وضعوا أيديهم على أرض الفلسطينيين تحولوا إلى المقرّر الأساس في الشأن السوري. فرئيس روسيا، فلاديمير بوتين، رأى أن تقديم أوراق اعتماده للغرب يتم عن طريق الصهاينة، وعبر التنسيق معهم في الشأن السوري. ولم تعطه أميركا تفويضاً كاملاً في الشأن السوري إلا عبر التنسيق مع إسرائيل وبرضاها؛ وهكذا تم؛ فقادة هذه الذين راقهم شعار نظام الأسد: "أحكمها أو أدمرها" سعوا إلى الإبقاء على تلك الطغمة، لانها أثبتت أنها الفضلى في حماية "الشمال الإسرائيلي". وكأننا بالنسبة لهذا العالم لا نزال أمام عملية تكفيره عن أخطائه تجاه اليهود؛ وكأنه بموقفه الإجرامي تجاه سورية والسوريين يلبي رغبة الصهاينة بأن عقاب السوريين بهذه الطريقة خدمة لهم، وتنفيذ لمشيئتهم وإرادتهم.
يعتقد سوريون كثيرون أن توقف المأساة السورية مرهونٌ بإرادة إسرائيلية تثبت يوماً بعد يوم أن امتداد المأساة كل هذا الوقت يعود إلى أن اسرائيل لم تشبع بعد من الدم السوري، وكأن الجهة الوحيدة التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كانت ولا تزال هي الشعب السوري تحديداً. وكأن السوريين هم فقط من يعتقد أن منح فلسطين لليهود هو "عطاء من لا يملك لمن لا يستحق". وربما يكون هؤلاء على حق، ليعتقدوا أن بقاء حافظ الأسد وابنه كل هذه السنين في السلطة ليس إلّا لأنه كان الأداة القامعة والمدمرة لتلك الإرادة الشعبية السورية إن فلسطين عربية سورية.
تلك وقائع تسكن اللاوعي العالمي، تم تحويلها إلى حقائق عنيدة، لا بد من مواجهتها لا بنكرانها، أو بالانتحار أمامها، أو بالتسليم لها. على السوريين أن يقنعوا العالم بأن ليس في سجله "هولوكوست" واحد، بل إن ألف "هولوكوست" قد تم تنفيذه في سورية، وكلّه موثّق: أفران للمعتقلين في صيدنايا، أحد عشر ألف صورة لمعتقلين قضوا تحت التعذيب (صور قيصر)، آلاف المغتصبات، قصف مدمّر للمشافي والمدارس والأسواق، تطهير عرقي إثني، مجازر الكيميائي، أسلحة فوسفورية وقنابل نابالم. وهناك المزيد والمزيد. لا يريد السوريون تدفيع العالم أي ثمن إلا وقف الهولوكوست الأسدي الإيراني الروسي بحقهم؛ لا يريدون أن يكونوا في أرضٍ ليست لهم؛ فلا وطن لهم أساساً إلا سورية.
في تطورات المسألة السورية، لا شبيه للمنظومة الأسدية إلا حكومة فيشي التي أوجدتها النازية في فرنسا. لم يكن إلى جانب تلك الحكومة عالمياً وقتها إلا مَن نصّبها. ولكن مع اختلاف 
الزمن، ومع الخدمات "الجليلة" التي قدّمتها المنظومة الأسدية لمختلف دول الظلم في العالم، وخصوصا الصهيونية، ترى أن "الفوهرر" الروسي الحديث لا يقف وحده داعماً الفيشية الأسدية، بل أيضا طغمة من الماسونية العالمية التي يتظاهر بعضها بنصرة الشعب السوري.
ما يتحدّى ذلك كله ويتجاوزه، وبعد أعوام على المأساة السورية، هو الحقائق السورية العنيدة التي لا بد للسوري أن يصنعها. استبداد منظومة الأسد وجرائمها، ونازية الاحتلال الروسي الإيراني، ورخاوة "أصدقاء الشعب السوري" وتآمرهم، وانتهازية نتنياهو ومخططات إسرائيل الإجرامية؛ كلّها ليست قدراً. تبدأ صناعة الحقائق هذه بتثبيت وقائع القضية وساعاتها وأيامها في السنوات الثماني الماضية؛ وتمر بتقوية الخلية السورية الذاتية؛ فلا بد من مشروعٍ تجترحه عقول السوريين الفاعلة، شعاره "استعادة وطن"، مشروع يُبنى لبنة ًلبنة ثقافياً سياسياً اقتصاديا، قوامه أربعون مليون سوري بعثرهم إجرام المنظومة الاستبدادية بعد سنة 2011 وقبلها. لا بد بدايةً من كشف حساب للحقائق، ومواجهتها بعناد وعقل وصبر، واعتماد مبدأ "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"؛ وما عانك مثل صدقك. ولا يموت حقٌّ وراءه مطالب عنيد. ولا ينقص السوريين وجود أمثال أولئك الذين أنقذوا شعوبهم. لن ينتهي الزمن غداً أو بعد غد. مشروع إسرائيل بدأ نصف قرن قبل إعلانها؛ وبني على باطل. يبني السوريون مشروعهم على حقٍّ يقف كالرمح. إنه رمح الحقيقة؛ ولا بد أن نكون أعند من حقائقنا.

92AD2EDD-95F3-4538-A08E-89A6AF44B3D2
92AD2EDD-95F3-4538-A08E-89A6AF44B3D2
يحيى العريضي

كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون

يحيى العريضي