ذهبوا إلى أطفال تايلاند وتركوا أطفالنا

ذهبوا إلى أطفال تايلاند وتركوا أطفالنا

14 يوليو 2018
+ الخط -
حتى قبل أن تنتهي ملحمة إنقاذ أطفال الكهف في تايلاند، ظهرت في الأوساط العربية موجة من الاستنكار المعتاد: ما هذا العالم المنافق الذي يقيم الدنيا لأجل 12 طفلاً تايلاندياً، ويتجاهل الملايين من أطفالنا السوريين والفلسطينيين والعراقيين.
يتجاهل هذا الخطاب الذي يتلذذ بالمظلومية حقيقة أن تايلاند دولة شرقية استبدادية فقيرة، لا تختلف عن بلادنا، وبالتالي لا منطق لاعتبار وجود مؤامرة كونية ما لصالحها، كما يتجاهل أيضاً أنه إذا استخدمنا هذه الوسيلة القاصرة للقياس، فإن أطفالنا حصلوا بالفعل على أضعاف ما حصل عليه التايلانديون! التغطية الإعلامية مثلاً لأسماء، مثل محمد الدرة وعهد التميمي، أكبر من التغطية لأطفال تايلاند، وبرنامج إغاثي دولي بضخامة "أونروا" للاجئين الفلسطينيين بكلفة مليارات الدولارات لا يُقارن ببضع عشرات من الغوّاصين المتطوعين الدوليين. ولكن، من جانب آخر، من الواقعي التساؤل عن ما يجعل حادثةً بعينها أبرز إعلامياً من أخرى، على الرغم من أنها ليست بالضرورة الأكثر دموية أو خطورة.
هنا يجب أولاً الاعتراف والتصالح مع حقيقة أن للإعلام قواعده السارية على الجميع، أولها مدى تأثير الصورة الذي قد يراه بعضهم غير عقلاني، وهذا طبيعي، فالإعلام على المستوى الجماهيري يخاطب العين والعاطفة، بشكلٍ لا يقل أبداً عن مخاطبة العقل. ولهذا كانت صورة الطفل السوري الغريق إيلان أبلغ من مئات البيانات عن ألوف الأطفال القتلى في أثناء رحلة اللجوء، وحظيت أسرة إيلان بتضامنٍ غير مسبوق، ونُشرت الصورة على أغلفة الصحافة العالمية، وأدت إلى تفاعل واسع مع القضية السورية. مهما كبرت الأرقام تظل مجرد أرقام، أما "الأنسنة" فهي ما يؤثر إعلامياً، وسيبقى دائماً هناك ملايين الضحايا في كل أرجاء العالم لا يحظوْن بما تحظى به اللقطة ذات المقادير الإعلامية المضبوطة. لو كان مقتل محمد الدرة في حضن والده نُقل بروايةٍ مكتوبةٍ لم يكن سيحظى أبداً بما حظيت به قصته المصورة، على الرغم من أنه الحدث نفسه للشخص نفسه.
القاعدة الإعلامية الثانية أن الناس يتأثرون بما يشعرون بالقرب منه، كانت صورة إيلان أعظم وقعاً، لأنه كان يبدو طفلاً معتاداً جداً، يرتدي ملابس ملونة وحذاءً صغيراً لطيفاً، ويبدو كأنه نائم لا أكثر. كان هذا أعظم تأثيراً بكثير من كل صور الأشلاء والدماء، وبالمثل كانت صور أطفال تايلاند.
القاعدة الثالثة هي عدم الاعتياد، كما يقول الدرس الصحافي الساخر الشهير إن الخبر هو "رجل عض كلبا"، وليس "كلب عض رجلاً". صور القصف والقتل اليومي في بلادنا تتحول إلى مجرد عادة لا تثير الانتباه، وجثث الأطفال ضحايا القصف تحولت إلى ما هو أقرب إلى ظاهرة طبيعية ليس فيها أي غريب، أما غير المعتاد فهو جثة طفلٍ على وجهها في المياه، أو أطفال محاصرون في كهف.
القاعدة الرابعة هي الدراما الممكنة، قصة أطفال تايلاند زاوية صغيرة للغاية، يمكن قياس النجاح والفشل فيها بوضوح، وكذلك لها نهاية معروفة لن تطول، ليست قضيةً عامةً، مثل "التحول الديمقراطي في تايلاند" أو "أزمة الشرق الأوسط". يستطيع المواطن الغربي أن يتابع يومياً كم طفلاً تم إنقاذه، وربما يشعر بمشاركته الإيجابية الفردية، بمشاركة غواصّ من بلده هناك، أو يتخيل نفسه ولو واحداً ممن كانوا يعدّون الطعام للمنقذين، لكنه هو نفسه حين يرى صور دمار مدننا بالقصف والحرب، ربما يتعاطف لحظات قبل أن يغير القناة، لا توجد نهاية معروفة، ولا يمكنه تخيل نفسه هناك. يبحث الناس عن الأمل القريب والنجاح الواقعي.
لنكفّ عن التمركز حول الذات، ونرى العالم بعيون أوسع ونفوسٍ أرحب، لا أرواح أهم من أرواح، نبارك للأطفال التايلانديين النجاه، ونشكر المتضامنين ذوي الإنسانية، ونأمل في مزيدٍ من الناجين من كهوف الظلم والدمار والبؤس في بلادنا، وفي كل مكان في العالم.