كرة القدم بين الترويح والتسييس

كرة القدم بين الترويح والتسييس

14 يوليو 2018
+ الخط -
استحوذت روسيا على الأضواء في الأسابيع الأربعة الماضية، وظلّ اسمها في بؤرة المشهد الإعلامي الدولي، بسبب استضافتها نهائيات كأس العالم، الحدث الكروي الرياضي الأكبر الذي يحظى بمتابعة ملايين المشاهدين في العالم، ويُسدَل الستار عليه غدا بالمباراة النهائية بين فريقي فرنسا وكرواتيا.
كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى، تستأثر بالجزء الأوفر من الاهتمام الشعبي والإعلامي مقارنة بالألعاب الرياضية الأخرى في كل بلاد العالم، سواء من العالم الأول أو العالم الثالث، لما تملكه الكرة من سحر خاص، لاشتمالها على قواعد موضوعية واضحة من المنافسة، والعدالة، وتكافؤ الفرص بين الجميع، ما جعلها الوسيلة المثلى للترويح عن عموم الناس من مختلف الأجناس، ومصدر المتعة والبهجة لهم، حتى وصفها عالم الاجتماع الفرنسي، كريستيان برومبيرجيه، بأنّها "التفاهة الأكثر جديّة في العالم".
نظراً لشعبيتها الجارفة والاهتمام الشعبي الكبير والمتزايد بها، والذي يبدأ بالشغف، وقد يصل إلى درجة الهوس، خرجت كرة القدم من إطار اللعبة الرياضية، وتحوّلت إلى واحدةٍ من أدوات الممارسة السياسية بصور مباشرة، وغير مباشرة، ولم يطرأ هذا الأمر حديثاً، وإنّما بدأ قديماً منذ عقود، وإن اختلفت مظاهره بين الماضي والحاضر.

كانت كرة القدم في الحقبة الاستعمارية، بالنسبة لدول العالم الثالث، من آليات النضال الوطني في مواجهة الاستعمار، حيث كانت المباريات الكروية الدولية للمنتخب الوطني حدثاً وطنياً (لا رياضياً فحسب)، من شأنه إكساب القضية الوطنية زخماً، حيث يقف المنتخب الوطني ندّاً أمام منتخبات الدول الأوروبية الاستعمارية، ولا سيّما إذا حقّق فوزاً. وقد كتب المؤرِّخ الكبير محمد صبري السوربوني، عن فوز المنتخب المصري على نظيره المجري بثلاثة أهداف نظيفة، في أولمبياد فرنسا 1924، وكان المنتخب المصري الفريق العربي الأفريقي الوحيد المشارك في الدورة: "كنت في باريس في عام 1924، وشاهدت انتصار الفريق المصري على الفريق المجري في دورة الألعاب الأولمبية، وكان الفريق المجري من الفرق الأوروبية الأولى.. كان هذا الانتصار دعاية كبرى لمصر، لأن الصحف الفرنسية أشادت ببراعة المصريين واقتدارهم الفنّي، وقد رفعت رأسي كمصري في ذلك اليوم، واستعدت أيام ثورة 1919، ونشوة الفخر والشعور بأننا أمّة حيّة تُثبت حقّها في الحياة".
وينطبق الأمر نفسه على مشاركة المنتخب المصري في كأس العالم 1934 في إيطاليا، بقيادة نجم الأهلي والمنتخب الوطني محمود مختار التتش، حيث كان الفريق العربي والأفريقي والآسيوي الوحيد المشارك في البطولة، وكانت مواجهته أيضاً أمام المجر، بيْد أنّه خسر بأربعة أهداف لهدفيْن.
وفي الحاضر، أصبحت الكرة إحدى أدوات القوّة الناعمة للدولة في محيطيها، الإقليمي والدولي، على المستويين، الجماعي للأندية والمنتخبات والفردي للاعبين المتميّزين، ويُكتفى هنا بالإشارة إلى ظاهرة اللاعب محمد صلاح الذي صار نموذجاً مُلهماً للشباب في المثابرة والكفاح.
وثمّة علاقة وثيقة بين الكرة والهوية الوطنية، فالمباريات الكروية للمنتخبات الوطنية تبدأ بعزف السلام الوطني ورفع العَلَم، فضلاً عمّا تصنعه الانتصارات الكروية من فرحة شعبية عارمة عابرة للانقسامات الطبقية، والطائفية، وللاستقطابات الجهوية، والأيديولوجية، والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، حيث توحِّد الفرحة بين الجميع، في مشاهد احتفالية جماعية، وهو ما يكون بمثابة إعادة تجديد للهوية الوطنية، وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني، وإعادة إيقاظ للمشاعر الوطنية، وإزالة ما ران عليها من عوامل التعرية. ومن جهة أخرى، تمثّل الهزائم الكروية جرحاً للكرامة الوطنية، ومصدراً للسخط والغضب الشعبي.
قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر: "كرة القدم هي السلاح الدبلوماسي الأكثر فاعلية، والأكثر تأثيراً واقتراباً من الناس". وعليه، تعرّضت كرة القدم لمظاهر عديدة من التسييس العمدي المُتعسِّف من الحكّام ورجال السياسة، إمّا بغرض الإلهاء وتفريغ الطاقات الشعبية، بعد إعادة توجيهها نحو الغلوّ في الاهتمامات الكروية، أو بغرض البحث عن شرعية مفقودة في الشارع، بالسطو على الانتصارات الكروية، والتوظيف السياسي لها، في محاولة لتعويض المشروعية الشعبية الغائبة، وللتغطية على الفشل في تحقيق إنجازات حقيقية ملموسة
في المجالات الأخرى، فتأتي عملية الحشد الرسمي والتعبئة الإعلامية المتزامنة مع المبارايات الكروية لونا من ألوان "الوطنية الرثّة" القائمة، بدغدغة العواطف بالشعارات الجوفاء التي قد تصل إلى درجة الفاشية. وفي هذا الصدد، كتب الباحث الأوروغواياني إدواردو غاليانو، في كتابه "كرة القدم في الشمس والظلّ": "في أوج كرنفال الفوز بمونديال 1970، أهدى الجنرال ميديشي ديكتاتور البرازيل نقوداً إلى اللاعبين، ووقف أمام المُصوِّرين وهو يحمل الكأس بين يديه، ومضى أبعد من ذلك، حين ضرب كرة برأسه أمام الكاميرات، ومارش (إلى الأمام أيتها البرازيل)، الذي وُضِعَت ألحانه خصّيصاً من أجل المنتخب تحوّل إلى الموسيقى الرسمية للحكومة، بينما كانت صورة بيليه وهو يطير فوق العشب ترافق في التلفزيون الإعلانات التي تهتف: لم يعد بإمكان أحد وقف البرازيل.
وعندما فازت الأرجنتين في مونديال 1978، استخدم الجنرال فيديلا صورة كيمبس المندفع كإعصار لأهداف مماثلة تماماً.
كرة القدم هي الوطن.. والسلطة هي كرة القدم: أنا الوطن.. هكذا كانت تقول تلك الديكتاتوريات العسكرية. وفي أثناء ذلك، كان الجنرال بينوشيه الآمر الأعلى في تشيلي، يُعيّن نفسه رئيساً لنادي كولو – كولو، أوسع أندية البلاد شعبية. أمّا الجنرال جارسيا ميزا الذي استولى على بوليفيا، فقد صار رئيساً لنادي ويلستيرمان، وهو نادٍ له جمهور واسع ومُتحمّس. كرة القدم هي الشعب.. والسلطة هي كرة القدم: أنا الشعب.. هكذا كانت تقول تلك الديكتاتوريات العسكرية".
وفي هذا السياق، اتخذّ مشروع "التوريث" في مصر من الانتصارات الكروية رافعة شعبية، من أجل تسويق نفسه، وتسويغ القبول الجماهيري له، حيث حرص رموز المشروع، بدرجاتهم كافة، على تصدّر المشهد بصورة فجّة في الانتصارات الكروية للمنتخب الوطني، وعلى الظهور أمام الكاميرات وهم يرفعون الأعلام في المدرّجات، أو وهم يعانقون بعضهم بعضا عقب إحراز الأهداف، أو وهم يحتفون باللاعبين في أعقاب الفوز بالبطولات، بغية إيجاد شرعية من العدم.
يحلو لبعض المُتثاقفين النخبويين، المُتقعِّرين المُتحَذلقين المُتنطّعين، من تجّار الوطنية وتجّار الدين، الغارقين في النرجسية، المسكونين بشعورٍ كاذب بالاصطفاء الزائف، الذين لفرط جهلهم بالكرة لا يعرف أغلبهم الفرق بين التسلّل وركلة الجزاء، يحلو لهم وصف الكرة بـ"التفاهات"، وبأنّها "أفيون الشعوب"، والتحدّث عنها بأنها من ألوان "الشعبوية"(!) وهذا كلام يعتوره التسطيح والاختزال والتبسيط، من نُخَب فاشلة لا تعرف سوى مصالحها، وتعيش مُتشرنِقة داخل جماعاتها و"شِللها" المُغلقة، وتنظر باستعلاء وازدراء إلى شعوبها التي لطالما أخفقت في فهم الدوافع السيكولوجية لسلوكها.
كرة القدم نشاط إنساني، وظاهرة اجتماعية ذات أبعاد سياسية واقتصادية (يضيق المقام عن التعرّض لها) وثقافية، تحتاج إلى دراسة مُعمَّقة. من جهة ربّما يكون الاهتمام الجماهيري المتزايد بالكرة تعبيراً شعبياً عن فقدان الثقة في النُخَب الفاشلة المُفلِسة فكرياً وأخلاقياً، ومن جهة أخرى، عن مدى التوق والاشتياق الجماعي لفرحة بإنجاز وطني كبير، لشعوبٍ ضاقت ذرعاً ببؤسها، وبما تعانيه من واقع معيشي مرير، فضلاً عن انسداد آفاق التغيير أمامها، حتى لو اقتصر الإنجاز على الجانب الكروي.