الصين والعرب .. رؤية مستقبلية

الصين والعرب .. رؤية مستقبلية

13 يوليو 2018

أمير الكويت ورئيس الصين وتبادل وثائق تعاون (9/7/2018/فرانس برس)

+ الخط -
افتتح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الدورة الثامنة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني، في 10 يوليو/ تموز الجاري في بكين، بخطاب مهم، طرح فيه رؤيته الاستراتيجية لكيفية توثيق العلاقات العربية الصينية، وبنائها على أساس تحقيق الفوائد المشتركة للطرفين، ومن خلال استثمار ما لديهما من موارد وفرص وإمكانات، وذلك بحضور أمير الكويت صباح الأحمد الصباح، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، و18 وزير خارجية من مختلف الدول العربية.
وأبرز ما جاء في الخطاب، حديث الرئيس شي عن التنمية المشتركة بين الطرفين، في إطار خطة "الطريق والحزام" التي يتبنّاها منذ سنوات، على أساس نقاط ثلاث: التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة، وتحسين الهيكلة التجارية بين الجانبين، والتي تتركز حالياً في استيراد النفط العربي، وتصدير المنتجات الصينية الرخيصة، عبر استيراد الصين منتجاتٍ غير نفطية من الجانب العربي في مقابل زيادة الاستثمارات الصينية في المنطقة العربية. وأخيراً، وهي النقطة الأكثر أهمية لمستقبل العالم العربي؛ الارتقاء بمستوى التعاون في مجال التكنولوجيا، بحيث يستفيد الجانب العربي من التطور التكنولوجي الذي حققته الصين، وخصوصا في مجالات الطاقة النووية والفضاء والطاقة الجديدة.
وكان مما فصله الرئيس الصيني أن بلاده ستستورد، في السنوات الخمس المقبلة، سلعاً وبضائع بقيمة إجمالية تتجاوز 10 تريليونات دولار، فيما ستستثمر أكثر من 500 مليار دولار استثماراً مباشراً في الخارج. مضيفاً أن قيمة البضائع التي استوردتها الصين في عام 2013 من الدول العربية بلغت نحو 140 مليار دولار فقط، وهذه تساوي 7% من الواردات الصينية السنوية البالغة قيمتها نحو تريليوني دولار، كما بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في الدول العربية 2.2 مليار دولار، أي 2.2% فقط من الاستثمارات الصينية المباشرة التي ستصل قيمتها السنوية إلى مائة مليار دولار في السنوات المقبلة. وقال شي: "الصين حريصة على تحقيق الالتقاء فيما بين التنمية فيها والتنمية في الدول العربية، بما يقدم دعما لما تعمل عليه الدول العربية من زيادة نسبة التوظيف وتعزيز العملية الصناعية ودفع التنمية الاقتصادية".
وأضاف أن بلاده "لن تنسى أنها قطعت قبل 60 سنة، في مؤتمر باندونغ، تعهداً للدول العربية التي لم تكن أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين بعد، بدعم نضال الشعب الفلسطيني، وأنه قبل 40 سنة، صوّتت 13 دولة عربية لصالح إعادة المقعد للصين الجديدة في الأمم المتحدة، وأن المساعدات الأكثر سخاءً التي تلقتها الصين بعد تعرّضها للزلزال المدمر في منطقة ونتشوان في مقاطعة سيتشوان، كانت من إخوتنا العرب". وزاد شي أن الجانبين الصيني والعربي "يلتزمان دوماً بموقف منفتح وجامع للتعامل مع بعضهما بعضا، ويتمسكان بالحوار والتواصل، بدلاً من النزاع والمجابهة، الأمر الذي يشكل نموذجا للتعايش المتناغم بين الدول التي تختلف عن بعضها بعضا من حيث النظم الاجتماعية والمعتقدات والديانات والتقاليد الثقافية". مستذكراً في هذا السياق تاريخاً من الصداقة والثقة بين الطرفين.
بهذه المقدمة، يمكن القول إن خطاب الرئيس الصيني، والصين لا تقول ما لا تفعل، وضع أرضية ممتازة لدخول العرب مجال التعاون مع الصين، في خطتها الاستراتيجية "الطريق والحزام". والتي تشمل حزاماً أرضياً يمتد من الصين مروراً بآسيا الوسطى وروسيا وصولاً إلى أوروبا، وطريقاً بحرياً يمر عبر مضيق ملقا في جنوب شرق آسيا إلى الهند والشرق الأوسط وشرق أفريقيا، وهذا ما يجعل المنطقة العربية محوريةً ومهمةً في هذه الخطة الصينية، خصوصا أن الخطة تشمل توجهات تنموية، مثل بناء خطوط الأنابيب، والبنية التحتية للتنقيب عن المعادن، ومرافق النقل والاتصالات.
بالطبع، مشكلة العلاقات العربية الصينية الراهنة أنها تنحصر في شكل مختل من التجارة، جاء عليه الرئيس الصيني بنفسه، قوامه، كما أسلفت السطور السابقة، تصدير النفط واستيراد المنتجات الصينية، من دون خطة استراتيجية تهدف إلى الإفادة من الصين باعتبارها قوة عالمية صاعدة في جسر الهوة الحضارية التي يعيشها العرب مع العالم، ومن ذلك في مجال استيعاب التكنولوجيا وتوظيفها إنتاج المعرفة وتطوير الصناعة.
غير أن إدارة التجارة الخارجية، بشكل أفضل، تنعكس إيجابياً على متطلبات التنمية، التي باتت مطلباً ملحّاً للعرب، مع العالم كله، لا مع الصين وحدها، وإن كانت الصين تمتاز بخصوصيةٍ في إمكانية بناء علاقة حضارية إيجابية ومفيدة مع العرب، نظراً إلى غياب التفكير الإمبريالي عن خططها تجاه العالم. وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أن الخلل التجاري بين الصادرات والواردات في العالم العربي واسع الأبعاد، فهو أولاً على علاقةٍ وثيقةٍ بالأزمة الحضارية العربية، المسماة "تخلّفاً"، فهي التي ترجع إليها حالة التبعية الاقتصادية للدول الصناعية، صاحبة التاريخ الاستعماري، كونها تحتكر التكنولوجيا المتقدّمة، فيما ظلت التجارة العالمية، وربما ستبقى، تقوم على قاعدة تصدير المواد الأولية لتلك الدول، واستيراد المواد المصنّعة منها، حيث تقول أرقام شائعة إن صادرات العالم العربي من المواد الأولية تزيد على ثلثي إجمالي صادراتها، فيما تبلغ الواردات من الآلات والمصنوعات النسبة ذاتها تقريباً. كذلك فإن تحرير التجارة الخارجية، منذ انضمام العرب زرافات ووحداناً إلى منظمة التجارة العالمية، لم ينعكس إيجابياً على الميزان التجاري، وهذا طبيعي، فما هي، يا تُرى، مجالات المنافسة بين دول مثل دولنا، ليست لديها إمكانات صناعية، وأخرى تتوفر على إمكانات صناعية هائلة، بفضل ما تمتلكه وتحتكره من التكنولوجيا؟!
وهكذا فإن النقطة المحورية في تعديل الميزان التجاري هي الحصول على التكنولوجيا الصناعية. بالطبع، فإن الدول الصناعية لا توافق على "نقل التكنولوجيا" إلى الدول النامية، وهذا، منطقياً، حقها، لأنها هي التي أنتجتها وطوّرتها ودفعت ثمنها الاجتماعي والحضاري. لكن من حقّ الدول النامية، من منظور المنطق نفسه، عدم توفير المواد الأولية الأساسية، إلا بشروط الحصول على التكنولوجيا، هذا طبعاً على افتراض أن يكون لديها برنامج وطني إنمائي ونهضوي، تسهر على إنجاحه. ونستطيع هنا أن نضرب ما حصل في الصين مثالاً، فقد ظلت شركات الدول الصناعية العاملة في الصين تحتكر التكنولوجيا، وترفض نقلها إلى الشركات الصينية، وحينها تدخلت الدولة لتفرض "الشراكة" مع الصينيين، لمن يرغب في الاستثمار في الصين، ولمّا كان هذا الاستثمار في مصلحة تلك الشركات، فقد اضطرت للموافقة، وتحققت نجاحاتٌ مهمةٌ في هذا المجال، خصوصا في السنوات العشر الأخيرة، حيث دخلت الصين مرحلةً صناعيةً جديدةً، تسميها "حان وقت الإبداع"، على الضد من عملها السابق، في تقليد الصناعات الأميركية والأوروبية واليابانية.

علينا ملاحظة أن العلاقات السياسية بين العرب والصين محكومةٌ هي نفسها، إلى حد كبير، بدبلوماسية السعي وراء النفط والتجارة. ولهذا فهي محدودة في إطار سياسي أو تجاري نخبوي، قياساً إلى العلاقات العربية مع أوروبا والولايات المتحدة. وضمن هذا الإطار، يمكن تصنيف الزيارات الرسمية التي يتبادلها المسؤولون الصينيون مع نظرائهم في الدول العربية التي تقيم مع الصين علاقاتٍ اقتصادية وغير اقتصادية نشطة، وتضم قائمتها غالبية الدول العربية، بما فيها الدول الرئيسية الكبيرة والغنية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوقيع اتفاقيات التعاون والشراكة بين الطرفين. وفي المنظور نفسه، يمكن النظر إلى العلاقات الصينية العربية التي تتم من خلال جامعة الدول العربية، بما في ذلك إدارة "منتدى التعاون العربي الصيني" نفسه الذي أعلن تأسيسه في مقر الجامعة في القاهرة، العام 2004، لتعزيز فرص التقارب والتعاون بين الصين والعالم العربي، خصوصا لأن الطابع الغالب لهذه العلاقات يتركز حتى الآن في الجانب التجاري الذي يتخصص فيه رجال الأعمال، بعيداً عن العلاقات السياسية الاستراتيجية، والثقافية العميقة.
ما يجب التنبيه إليه، في هذا السياق، أن خطط الرئيس، شي جين بينغ، الراهنة، تمثل نقلة نوعية في استراتيجية الصين النهضوية التي بدأت قبل أربعين عاماً، إذ تتحول بالصين من التفكير بالاقتصاد المحلي إلى التفكير بالعلاقة مع العالم، ومكانتها فيه، وذلك بالطبع في ضوء النجاح الاقتصادي المبهر الذي حققته الصين خلال العقود الأخيرة، غير أن هذه النقلة لا تبدو مفاجئة بذاتها، ولا تعد تغييراً في استراتيجية الصين، بل تطويراً منطقياً لها، واستكمالاً لنهج الإصلاح والانفتاح الذي تريد الصين أن تتوّجه في مئوية الجمهورية الشيوعية، العام 2049، بأن تكون الدولة الأقوى اقتصادياً في العالم.
الجديد في خطط الرئيس شي وتوجهاته أن طموحه يتجاوز البعد الاقتصادي إلى السياسي، بدليل تعديله الدستور في العام الفائت، ليصير مسموحاً له (وهو الرئيس الكاريزمي الذي لم تعهده الصين في عهدي الرئيسين السابقين) البقاء رئيساً مدى الحياة، على غير ما كان منصوصاً عليه من السماح للرئيس البقاء في منصبه دورتين رئاسيتين فقط، مجموعهما عشر سنوات. وهذا يعني أن ثمة مصداقية أكبر لبناء علاقة وثيقة مع الصين في عهد شي، لأنه يريد لبلاده مكانةً جديدة، يمكن أن يتوافق معها العرب، ويبنوا لأنفسهم مكانةً مميزةً مع هذه القوة الصاعدة، ما يرتقي بمكانتهم الضعيفة حالياً على الصعيد الدولي، فضلاً بالطبع عن الإفادة من الصين في بناء تنمية عميقة لدولهم ومجتمعاتهم. وما هو مؤكد أن نجاح العالم العربي تنموياً سيظل رهناً بتقاربه، أو تكامله، الاقتصادي، لأن الدول العربية كافة إما أنها لا تتوفر على الموارد الطبيعية التي تمكّنها من التفاوض على التكنولوجيا، أو أنها لا تتوفر على الموارد البشرية التي تمكّنها من إدارة تلك التكنولوجيا باستقلالية، أو أنها لا تتوفر على شروطٍ أخرى، لتحقيق قفزات اقتصادية قائمة على التصنيع، كالاستقرارين، الاجتماعي والسياسي، فيما يمكن القول إن لدى العالم العربي مجتمعاً تلك الإمكانات.
وإذا كان خطاب الرئيس الصيني، في افتتاح هذه الدورة من منتدى التعاون العربي الصيني، يمكن أن يشكل فاتحة عهدٍ جديد للعلاقات بين الطرفين، إذا جدّ العرب في ذلك، فإن ثمّة مفاتيح عديدة، يمكن أن يلتمسها العرب من أجل تحقيق ذلك، أهمها انعقاد المنتدى الاقتصادي بين الجانبين سنوياً في مدينة ينتشوان، عاصمة مقاطعة نينغشيا الصينية، ذات الأغلبية المسلمة من
قومية هوي التي تعتبر أنها سلالة التجار العرب الذين وفدوا إلى الصين، عبر طريق الحرير القديم، واستقرّوا فيها بعد زواجهم من صينيات من قومية هان. حيث يوفر المنتدى الاقتصادي سنوياً فرص تطوير العلاقات الاقتصادية، ما يعني وجود أرضيةٍ مناسبةٍ للحصول على التكنولوجيا الصينية في إطار تخطيط تجاري جديد، ويمكّن الدول العربية غير النفطية أيضاً من الإفادة من تطوير الصين صناعة الطاقة الجديدة المعتمدة على الطبيعة، خصوصا أن العالم العربي لا تعوزه الطاقة الشمسية الهائلة، ولا حركة الرياح المتدفقة.
كذلك تتوفر أرضية مناسبة لتطوير العلاقات الثقافية والإنسانية بين المجتمعات العربية والصين، سواء من خلال التعليم أو التدريب الذي توفره الصين، وهو ما نصّ عليه الرئيس شي بنفسه حين قال إن بلاده على استعداد لتوسيع نطاق التواصل الثقافي مع الدول العربية، مثل مهرجانات الفنون وتشجيع مزيد من الطلاب على الالتحاق بالجامعات الصينية، إضافة إلى تعزيز التعاون في مجالات السياحة والطيران والإعلام والنشر. موضحاً أن الصين ستقوم، خلال السنوات الثلاث المقبلة، بتدريب ستة آلاف موهبة عربية في مختلف التخصصات، كما ستنظم خلال السنوات العشر المقبلة زيارات متبادلة بين عشرة آلاف فنان صيني وعربي، وتشجيع التعاون التخصصي بين مائتي مؤسسة ثقافية صينية وعربية، وتوجيه الدعوة إلى خمسمائة موهوب ثقافي وفني عربي لزيارة الصين، والحصول على دورات تدريبية فيها.
على أي حال، يبدو أن الرئيس الصيني رمى الكرة في الملعب العربي، حين قال في خطابه إن بلاده ستشجع الشركات الصينية على استيراد مزيد من المنتجات غير النفطية من الجانب العربي، بغية رفع حجم التبادل التجاري الصيني العربي من 240 مليار دولار في العام الماضي 2017، إلى 600 مليار دولار في السنوات العشر المقبلة. كذلك ستشجع الشركات الصينية على تعزيز استثماراتها في الدول العربية، في مجالات الطاقة والبتروكيماويات والزراعة والتصنيع والخدمات، سعياً إلى رفع إجمالي الاستثمار الصيني غير المالي في الدول العربية، من 10 مليارات دولار حتى العام الماضي، إلى أكثر من 60 مليار دولار في نهاية السنوات العشر المقبلة.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.