الحب الأول

الحب الأول

12 يوليو 2018
+ الخط -
منذ بداية 2013، وأنا أجرب طرقاً عديدة للوصول إلى مكان عملي في القاهرة، لاجئة منتقلة حديثاً إلى المدينة، فلا أعرف أحداً هنا، ولا أملك عناوين ونقاط علام وذكريات. ومع هذا، فهي ليست غريبة، مخيلتي مليئة بشوارع المدينة، أسمائها ومناطقها، ولهجتها المحببة.
في هذه المسافة بين الألفة والغربة، أحاول أن أمتلك الشجاعة والثقة لأعيش، وبمقدار ما أجرّب طرقاً عدة للوصول إلى نقطةٍ واحدة، أبقى على القدر نفسه من الحيرة، لا أعلم إن كانت المدينة محطةً عابرة، أم أنها مدينتي فعلاً، مدينتي الأخيرة. لا أعلم إن كنت آلف الإقامة هنا، أم أني أخترعها كل يوم.
في هذه الرحلات اليومية داخل المدينة، كنت أحاول البحث دوماً عن التشابهات مع دمشق: شارع، مبنى ، شخص، أي شيء، وكل شيء، والإخفاق حليفي دوماً، كلما مررت بشارع مليء بالشجر كما كان الشارع الذي مشيت فيه مرات كثيرة مع صديقتي في منطقة المزرعة.. لا لست هناك.
نفق العجوزة، وهو صغير شبيه جدا بنفق الموت في الأمويين، الذي وبعد سنوات طويلة من انتظاره لحل أزمة الازدحام، كان السبب في مئات الحوادث شهرياً، أنزل النفق، سأخرج لأجد نفسي عند كلية الآداب، وأنظر من الزجاج بحثاً عن أحد من الأصدقاء، لا هذا كان منذ عدّة سنوات، إني في القاهرة، مدينتي الجديدة، ببساطةٍ لم أعد هناك.
تركت دمشق منذ أشهر، عام، عامين.. لم أعد أذكر، إذ منذ وقت بعيد، وكل ما بقي في ذاكرتي منها لا يكفيني لأحيا به، فدمشق تشبه الحب الأول الذي نختبر معه أول قبلةٍ، لمسة، حضن، كلمة، دمعة، ضحكة.. لكني أجبرت على إنهاء علاقتي به. بعد تجاوز حزن الانفصال، لا يعود مهما من الذي تخلّى عن الآخر، المهم هو حقيقة أننا لم ولن نعد معاً. لو افترضنا إنني أمتلك حق العودة، فلا أنا ولا دمشق بقينا على ما كنا عليه، كبرنا بعيدين عن بعض، مررنا بتجارب مختلفة، عانينا بصمتٍ تارةً، وبصَخب طوراً، ظهر الشيب أكثر في شعري، تغيرت معالم جسدي، بدت التجاعيد تظهر على وجهي، والدوائر الداكنة حول عيني. هذا ما أعرفه عن نفسي، وأنا لا أعرف كيف تبدو المدينة هناك، المدينة التي أراها على الشاشة لا تشبه مدينتي التي أحاول أن أتلمس ما بقي منها في الصور الثابتة، ولا أجدها. لا أعرف إن كنت سأعرفها لو التقيتها، وهي بالتأكيد لن تستطيع معرفتي.
الحنين باق، لكنه لا يصلح لحياة كاملة. وعليه قرّرت، بشكل واع ومنطقي، أن أحب مجدداً، وكما هي معظم خياراتنا بالطبع، تبدو لوهلة أنها حرة وبملء الإرادة، لكنها ليست إلا إعادة تدوير لواقع نجد أنفسنا أمامه، فنقبله وندافع عنه، وربما نناضل لإبقائه. المصادفة وحدها قادتني إلى القاهرة، المدينة الكبيرة قياساً بدمشق، أتوه كثيراً في أحيائها، أجرّب طرقاً كثيرة للوصول إلى نقطة واحدة، محاولة تحويل المصادفة إلى يقين، كأن المدينة مدينتي.
بدأت المدينة الجديدة بالانتقال إلى الجسد، شوارع حين أمر بها يغمرني شعور بالألفة، هناك نافذة لشعور غريب أشبه بزغزغة في البطن، السير بالقرب من النيل، وتذكر أمسيةً بعيدة، كأنّ الفراشات نفسها تطير مرتين. القاهرة تتسرب إليّ خلسة، أنتبه فقط لمحاولاتي إخفاء عبورها فيَ، كأني أخاف معاتبة دمشق المدينة البعيدة لي، كأني يمكنني سماع عتابها في كل مرة أنطق باللهجة المصرية "لقد تغيرتي"، نعم تغيرت، وأنت أيضاً تغيرت، ولم يبق لنا إلا ما لا يلمس، وما لا يمتحن، الحنين، هو شكة دبوس، تُذكّرنا بألا طريق ينتهي إلى مدينتي البعيدة، هناك، المدينة التي لن تعدّ .
في هذه المسافة عينها بين الألفة والغربة، أكتشف مدينتين.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)