قبلة بين العينين

قبلة بين العينين

11 يوليو 2018

(كلود مونيه)

+ الخط -
بدا موسيقار الأجيال الراحل، محمد عبد الوهاب، طيِّبا ومطيعاً؛ لأنه تخيَّل سبباً مهمًّا للفراق بين المُحبِّين، وهو التقبيل بين العينين، فبعده اكتشفنا أسبابًا كثيرة للفراق بين العُشَّاق، منها وأهمُّها طغيان المادة والمظاهر على العواطف، في زمننا الحالي، وانتهاء قصص الحب دائماً، لأن كلَّ طرفٍ يحسب حساب أشياء أخرى غير الحب.
ولكن هذا لم يمنع أن يبقى للقبلات مكانها في الحياة، وسيلة للتعبير عن المشاعر، فعلماء النفس يُجْمِعون على أنّ الطفل بحاجةٍ إلى أربع قبلات، كلَّ يوم، لكي ينشأ شخصيةً سويَّة، وهذه القبُلات تكون على الجبين والرأس، والخدِّ، واليد، للتعبير عن مشاعر الاستقبال، والفخر، والشوق، والاعتزاز، على الترتيب. وكان الرسول قدوتنا في ذلك، حيث كان يقبِّل ابنته فاطمة، كلَّما يراها، وكان يحتضنها أمام الصحابة، ودعا إلى أن تكون القبلة سفيراً بين الزوجين، تمهيدا للعلاقة الحميمة؛ لكي تصبح هذه مختلفةً عن علاقة باقي المخلوقات على الأرض، والتي تمارس الجنس؛ حفاظاً على النوع، وبدافع الشهوة.
وعلى الرغم من أنَّ القبلات السينمائية ألهبت خيالَنا، في مرحلةٍ مِن عمرنا، وحِرْنا: هل هي حقيقة، أم مجرَّد تمثيل، ولاحق أبي باللعنات الممثلاتِ اللواتي يقبَلْنَ أن يقبَّلهن الغرباء، إلا أنَّ ملكة الإغراء، هند رستم، صرَّحت بأنها تكره القُبْلة من الفم، وتشعر بالقرف منها. أما حسناء الشاشة، مريم فخر الدين، فقد صدمت بنات جيلها، حين صرَّحت بأنها لم تحب قبلات العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ (اشتهتها مشاهدات كثيرات)، وذلك لأنَّ رائحة فمه كانت كريهة، أما المدافعون عن العندليب، فقد طلبوا له العون، واستغربوا: كيف يقبِّل تمثالاً من الشمع، اسمُه مريم فخر الدين؟
وهذا لم يمنع أن ترصد الكاميرات قبلاتٍ خالدةً لا تُنسى، حيث جمع موقع دويتشه فيله الألماني، وفي اليوم العالمي للتقبيل، السادس من يوليو / تموز، أهمِّ القبلات في العالم، ومنها القبلة العشوائيَّة التي قام بها جنديٌّ في البحرية الأميركية، وهو يحتضن الممرضة إديث شاين، بشكل عفوي، في الشارع، خلال استقبال الجنود الناجين من الحرب. وتعليقا على أمثال هذه القبلة، أثارت موجات من الغضب والسخط، في الشوارع العربية، فقبل عامين ثار المجتمع متعدّد المعايير لمشهد شابٍّ يقبِّل فتاة في شارع الوكالات في عمَّان، معتبراً هذا الفعل خادشاً للحياء، وليس تعبيراً عن لحظة صادقة، وسط حياةٍ مليئةٍ بالزيف والنفاق والكذب والخيانة.
في اليوم العالمي للتقبيل، تقام الفعاليات في العالم، لهذه المناسبة التي بدأ الاحتفال بها في بريطانيا، في أواخر القرن التاسع عشر، وتجري المسابقات التي يتنافس فيها المتنافسون على أطول قبلة، أو أجمل قبلة، وقد رُصِدت أطول قبلة في العالم بين زوجين، في تايلاند، استمرَّت 58 ساعة، في حين أنَّ شهر رمضان، من كلِّ عام، يشهد سؤالاً مكرَّرا من المشاهدين على قنوات البث التلفزيوني المباشر لمشايخ الدين، بشأن حُكْم تقبيل الزوجة، خلال نهار رمضان، وكم سائلٍ من هؤلاء لا يتذكَّر متى قبّل زوجته آخر مرَّة.
جدَّاتُنا الطيِّبات رأين أنَّ مِن الفأل السيّئ تقبيلُ الطفل الصغير، وهو نائم. ولكن ماذا يحدث، لو طبع أحدُهم على وجهك قبلة، في موضع ما، وأنت نائم؟ لعلَّنا جميعاً بحاجة لهذا الشعور، لكننا حين يأتي، وقت الوداع، نأخذ بنصيحة عبد الوهاب بعدم التقبيل على الجبين؛ لعل الأيام تجمعنا ثانية. أما أبي فقد ظلَّ يُدلي بحكمه وخبرته في الحياة، حتى رحيله، فقال مثلا شعبيا فلسطينيا معروفا، أنَّ "تقبيل اللحى ما هو إلا ضحك على الذقون". وسوف يفهم هذا المثل المنافقون والمُطَبِّلون والمُسَحِّجون، بالتأكيد، أما أنا فأقوم بتقبيل يدي، مراراً على كلِّ نعمة أستصغرها، ويشعر بفقدانها غيري، فقبِّلوا أيديكم، كلَّ صباح، تسعدوا، وامنحوا مَن حولكم قبلاتِكم، فلا عمر للمشاعر، ولا مكان، ولا زمان، ولعلَّ الندم يقتلنا؛ لأننا بخلنا بقبلةٍ على جبين راحلٍ بات الاعتذارُ له مستحيلاً.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.