عن المنفى الفلسطيني

عن المنفى الفلسطيني

02 يوليو 2018

تطريز زهيرة زقطان

+ الخط -
المنفى هو الكلمة التي تختصر حياة الفلسطينيين الحديثة، لكنه منفىً من نوع خاص، فقد عاشوه على مستويين مندمجين، منفى جماعيا، ومنفى فرديا، فكان الانقطاع استمرارا للعلاقة مع الوطن، فلا هو يعيش هناك، ولا يكفّ عن الانتماء إلى هناك في الوقت ذاته، فما تُرك هناك سيستعاد يوما، وهذا هو الحلم الفلسطيني الذي لا يزال مستمرا، على الرغم من كل النكبات التي تعرّض لها الفلسطينيون في تاريخهم الحديث.
في دول جوار فلسطين، عاش الفلسطيني يوميا بما يذكّره بعدم انتمائه إلى المكان، ما شكل أحد الأسباب التي جعلته غير قادر على الانسجام مع المحيط الجديد. وعمل الضغط الخارجي من الدول المضيفة بعدم الرغبة به، باعتبار ذلك عاملا إضافيا لإنتاج الغيتو الفلسطيني (المخيم) والحفاظ على استمراره بأشكال مختلفة.
أعاد المنفى تشكيل الفلسطينيين بوصفهم غرباء في أوطان الأخوّة، لكنهم في انتظار العودة إلى الوطن. وهذا ما أنتج ثقافةً فلسطينيةً تقوم على المؤقت، بوصفه الثابت الوحيد في حياتهم، طالما أن حلمهم في العودة إلى وطنهم لم يتحقق. وأصبح عليهم، مع طول فترة المكوث في المنافي، إدماج هذا المنفى في حياتهم، والتصالح معه إلى حد ما. ومع مرور الزمن، تعمق المنفى، وانتقل من تجلياته بوصفه حالة جماعية، وأخذ طريقه إلى الحالة الفردية، وأصبح هناك أبناء منفى، ليس بمعنى الانتماء فحسب، بل بالولادة أيضا. تشتت الفلسطينيون عام 1948 في الدول المجاورة التي استضافتهم على مضض، وعلى أساس مؤقت. وهكذا تغيرت طبيعة الجماعة الفلسطينية بشكل متزايد، مع تغير المكان الذي يعيشون فيه، وبات عليهم أن يخترعوا حياتهم ووطنهم من تشظي المنافي وتناثر السكان، فعندما اختفى الوطن، بات على الفلسطينيين أن يكونوا ليس بديلا عن مجتمعهم الذي اقتلع من وعائه الجغرافي فحسب، بل أن يكونوا بديلا عن البلاد التي اختفت تحت مسمى "إسرائيل" أيضا.

لأن الاقتلاع شتّت الفلسطينيين، كان عليهم استبدال الجغرافيا بالخيال، ليعيدوا صناعة فلسطين في أماكن لجوئهم. لم تكن وظيفة هذا الخيال الإبداعية الحفاظ على الوطن السليب من النسيان فحسب، مع أن هذه كانت إحدى مهماته التاريخية الكبرى، بل كان على هذا الخيال (وعلى الرغم من اختفاء الوطن الفلسطيني) أن يشتقّ المستقبل الفلسطيني أيضا. أعاد المجتمع الفلسطيني تشكيل نفسه في المنافي بوصفه مجتمعا جديدا وحديثا، وبنى مشروعه الوطني بالتضاد مع المنفى. وبذلك، تحوّل من ضحيةٍ عاريةٍ في منفى نهائي إلى ضحيةٍ صاحبة مشروع تاريخي، ليس لحل مشكلاتها واستعادة حقوقها فحسب، بل ولحل المشكلات المعقدة لعدوها.
لا يعني هذا أن المنفى لم يكن كارثةً على الفلسطينيين، فقد فقدوا القدرة على الإمساك بحيواتهم منذ فقدانهم وطنهم، وباتوا يعيشون في بلاد الآخرين، ولو كان هؤلاء إخوة وأشقاء. ولا مبالغة في القول إن الهوية الوطنية الفلسطينية كانت أكثر تبلورا من شقيقاتها العربيات بحكم هذا الاقتلاع. وليس بسبب ميزاتٍ في العيش الفلسطيني، بقدر ما هو بسبب عيبٍ في هذا العيش، أنتجه المنفى، فبات على الفلسطينيين أن ينتجوا علاقةً مع وطنهم المسلوب أكثر وضوحا من البلاد العربية التي لم تُسلب من سكانها، ما جعل رابطها الوطني أقلّ تبلورا بحكم غياب التهديد الوجودي الذي تعرّض له الفلسطينيون، ما جعل علاقتهم ببلادهم أكثر وضوحا، فالحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي كان يعيشها الفلسطينيون في وطنهم قبل الاقتلاع باتت أوضح في المنافي، وإذا كانت الجغرافيا قد اختفت، فهي لم تغب من حياة الفلسطينيين في المنافي. الاستقرار الذي لم يكن الفلسطينيون ينتبهون إليه وهم يعيشون في بلادهم، باتوا يدركونه عندما فقدوا هذه البلاد، فما كان منهم إلا أن دمجوا الوطن المستقر في المنفى القلق. استطاع الفلسطينيون عبر هذه العملية أن يُرقّعوا المنفى بقطع الوطن التي استعادوها في منفاهم، حتى يصبح المنفى قابلا للاحتمال. لذلك أخذت الحارات والمحلات التجارية البائسة الصغيرة في المخيمات أسماء المدن والقرى والجغرافيا الفلسطينية. بذلك أخذت الأشياء الصغيرة في الحياة الفلسطينية معناها المتجاوز قيمتها، وأخذت دلالاتٍ ما ورائية، الصور الفوتوغرافية، الملابس، الأشياء المنتزعة من مكانها الأصلي، طقوس الكلام والعادة. و"جميعها أعيد إنتاجها بكثرة
وكبرت، وحولت إلى فكرة أساسية، وطرزت وتنوقلت كخيوط في نسيج العلاقات التي نستعملها، نحن الفلسطينيين، لنربط أنفسنا بهويتنا ولنربط الواحد بالآخر". لقد أدى ضياع "ثبات الجغرافيا" وضياع "تواصل الأرض" إلى ضياع قدرة الفلسطينيين على أن يتشابهوا إلا بوصفهم منفيين، بتعبير إدوارد سعيد.
في الحالة الفلسطينية، كان 1948 عاما مفصليا في الانتقال إلى وجودٍ جديدٍ مختلف عن السابق. ويشرح إلياس صنبر، في "بلاد تنتقل"، هذه الحالة، على اعتبار أن ضياع الوطن قد عدّل جذرياً التشكيلة الثقافية الفلسطينية، فبدل أن يشكل عام 1948 لحظة أصلية، شكل ربطاً مفصلياً، أكد على جوانب ثقافية محلية، وتمخّض عن أنماط تعبيرية جديدة، فلئن لـم يكن العام 1948 مؤشراً على ولادة ثقافة فلسطينية جديدة (أقول وطنية فلسطينية جديدة)، فالمؤكد مع ذلك أن الفلسطينيين سيبدأون، اعتبارا منه، بالكلام أكثر من أي وقت مضى بصوت "شخصي" ونبرة جديدة، ويعبّرون عن قلقهم الخاص، ينشدون أو يبكون القدر الذي صار قدرهم. ما أن وقعت الكارثة، حتى صار الفلسطينيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم البدائل الحية عن بلادهم. بات كل واحدٍ منهم يصبح هو فلسطين، ويحملها في منفاه، مشوّشا الأماكن التي يمر بها.
لا عودة للفلسطينيين من المنفى وكأنه تجربتهم النهائية، ليس لأن ما جرى ويجري يتجاهل المنفيين الذين لا يرغب أحدٌ بهم فحسب، وليس لأنه أضيق من فلسطين الحلم أو فلسطين التاريخية أيضا، إنما لأنه أضيق من حدود الاحتمال. وطن يتحكّم الآخرون به، وينظرون إليه كأنه بقع سكانية مزعجة يتم تقطيعها، كما يتم تقطيع الأرض طولا وعرضا بطرقٍ لا معنى لها سوى إثبات أن أصحاب الوطن هم غرباؤه.
إذا كان من الصحيح أن الحياة لا تُعاش بالأحلام فقط، فمن الصحيح أيضا أن لا أحد يستطيع أن يسلب المنفيين أحلامهم بوطنٍ حتى لو كانت أوطانهم مستحيلة التحقيق، فالحلم بالوطن البعيد هو ما يقتات عليه المنفي.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.