المتوسط مقبرة مائية

المتوسط مقبرة مائية

10 يونيو 2018
+ الخط -
بينما كان الرأي العام التونسي منهمكا بالتجاذبات الجارية بين مختلف الفرقاء السياسيين، على خلفية تعليق العمل بوثيقة قرطاج وغموض مآلات حكومة يوسف الشاهد، ابتلع البحر ما يناهز 90 مهاجرا تونسيا، وما زال مصير أكثر من مائة مجهولا، والأرجح أنهم قضوا عرض المتوسط، ولم يتم إنقاذ إلا نحو 70 شخصا. تظل هذه أثقل حصيلة من حيث عدد الوفيات المسجلة في حادث غرق سفينة تقل المهاجرين غير الشرعيين. إذ سجلت، منذ الثورة و حتى قبلها، عشرات حوادث الغرق. ولكن تعد الأخيرة أثقلها على الإطلاق. لم يميز الموت بين التونسيين وبقية المهاجرين الأفارقة، كما كان دوما يفعل، حين يداهم الأزرق قواربهم المتآكلة أصلا. لقد تم التعرف على عشرات الجثث ودفنها في مقبرة بلدية في مدينة صفاقس، في انتظار ترحيل جثثهم إلى بلدانهم الأصلية، على الرغم من عسر هذه المهمة. حدثت هذه الكارثة على مقربةٍ من جزيرة قرقنة (محافظة صفاقس)، على الرغم من أن المنطقة مصنفة من ضمن البؤر الهجرية الأكثر نشاطا في السنوات القليلة الفارطة، وهي التي تنطلق منها أكثر من ثلث عمليات الإبحار خلسةً باتجاه الشواطئ الإيطالية. ظلت أسئلة مطروحة حول "التراخي"الأمني الذي قد يكون سجل في علاقة بالحادثة، علاوة عل بطء عمليات النجدة والإنقاذ، ما جعل نهاية المركب المحطم مأساوية ذلك الحد. وربما كان ذلك أحد أسباب إقالة وزير الداخلية التونسي.
مات هؤلاء الشباب كالعادة في غفلةٍ من الجميع. لم ننتبه إليهم، ولم نستمع إلى غضبهم، الصامت أحيانا والهادر أحيانا أخرى. كل ما نعرفهم أن الصخب السياسي الجاري حاليا لا يعنيهم، وربما لم يسمعوا به أصلا، كما أنهم على الأرجح لم يشاركوا في الانتخابات البلدية التي جرت أخيرا، لأنها لا تعنيهم. كان البحر آنذاك مجالهم المحبذ، بعد أن ضاقت بهم الأرض وطاردتهم.
يعيش هؤلاء الشباب في عوالم اجتماعية خاصة: مجموعات صغيرة منجذبة إلى عالم ليلي
 عادة: مقاهي وأزقة الأحياء الفقيرة، أو ضيعات القرى النائية، يلوذون إلى الفراغ والصمت، وكثير من السجائر، حيث يبدأ بناء مشروع الهجرة السرية الذي يتطلب مالا وموارد وعلاقات، وخصاص ذاتية كثيرة: الشجاعة والمقامرة بالحياة أصلا.
كل السياسات العمومية التي اتبعتها الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة، وقد قاربت السبع (تجاوز عددها عدد حكومات إسبانيا أكثر من 30 سنة منذ بدء انتقالها الديموقراطي)، أخفقت في وضع حد لموجات الهجرة السرية المتلاحقة. لم يكن الشباب محل اهتمام خاص في صلب تلك السياسات. شاركوا بكثافة وفاعلية في الثورة، وكانوا جزءا مهما من وقودها، لكنهم لم يروا من آثارها شيئا، فعلى خلاف كل انتظاراتهم، تضاعفت مشاعر الخيبة والغضب والإحباط لديهم. يقول بعض من ناجين إنهم لم يروا شيئا مما كانوا يحلمون به، والثورة كابوسهم الحقيقي، وليس الهجرة السرية.
تلقي المدرسة سنويا بأكثر من مائة ألف شاب منقطع عن الدراسة. وعلى الرغم من جهود الدولة في إعادة بعضهم إلى الفصل، فإن اليأس من المدرسة، ويقين هؤلاء أنها لن تلعب مطلقا دور المصعد الاجتماعي، فضلا عن أساليب التربية ومناهجها وإمكاناتها، جعلت المدرسة مجالا طاردا.
يؤوي المجتمع في طياته الخلفية، بالإضافة إلى ذلك ما يناهز 80 ألف شاب، يتخرجون سنويا من الجامعات، ليجدوا أنفسهم عرضة لبطالة طويلة المدى. تغذي هذه الأعداد سنويا خزّان الهجرة السرية، وتضاعف من الضغط الهجري في بلدٍ يقترب فيه عدد العاطلين عن العمل من 800 ألف، ثلثهم من حاملي الشهادات الجامعية العليا. ولم يسلم اختصاص من ذلك، بما فيها الطب والصيدلة والهندسة.
قد تكون أسباب الهجرة السرية واضحة: الفقر والخصاصة والتهميش. ولكن سيبدو هذا التفسير قاصرا عن إدراك معنى الهجرة السرية، وكيف أصبحت فيروسا يصيب فئاتٍ واسعةً من الشباب، على حد تعبيرهم. "لقد أصابني فيروس الهجرة، والتقطته منذ مدة، ولن أتخلص منه، حتى لو مت. أما إذا تم إيقافي في عميلة، أو نجوت في حادث غرق مثل هذا، فإنني سأكرر المحاولة مرات ومرّات".. هكذا صرح ناجون عديدون، في إصرار غريب على الهجرة، حتى لو كان ثمن هذه المغامرة القاتلة الموت المحقق. لم تعد صور الجثث التي تبثها القنوات التلفزية التونسية كابحةً لهذه النزعات والرغبات المميتة. هذا ما يجعل تفسير الظاهرة استنادا إلى 
عوامل اقتصادية اجتماعية قاصرا عن فهم المعاني والتمثلات التي تجرف هؤلاء الشباب إلى هذه التيارات القاتلة من الهجرة. ثمّة شيء ما يكمن في قناعات الناس ورؤاهم لذواتهم والعالم. علينا أن ننتبه إليه، هو على هيئة صور وأفكار ومعانٍ، واستعارات تخلق عوالم خاصة.
في العائلة وحلقات القرابة والجوار والصداقة سلوكيات وتصرفات وأفعال عديدة، تشي بأن لا قيمة لهؤلاء ولا وزن لهم، وهم على تلك الحال من التهميش والإقصاء وعدم الاعتراف. الإحساس بالمهانة وافتقاد المكانة، مع أشكال متعدّدة من الاحتقار واللامعنى لحياتهم تدفع هؤلاء إلى مثل هذه المغامرة القاتلة: "ثقافة الهروب بعيدا عن .. ووصولا إلى .. الهنا" حيث وهم أن تكون لنا هوية مغايرة ومكانة أخرى وقيمة ما تضع حدا للإهانة والاحتقار.
في هذه المناخات المواتية، تشتغل شبكات التجارة بالمهاجرين: اقتصاد موازٍ تنشط فيه يد عاملة، لا تفرق بين مهاجر ودابة أو سلعة: كتل وأجسام يتم نقلها من مكان إلى آخر في مقابل أرباح مالية، حتى ولو كانت المغامرة قاتلة: يقتضي ذلك مهارات وموارد وسلسلة من التواطؤات مع الأمن وأفراد فاسدين من أعوان السلطة العمومية، فضلا عن علاقات عضوية قوية بين شبكات التهجير والمختصين في شبكات تسفير الإرهابيين، وترويج المخدرات... إلخ. تقاسم وظيفي للعمل لا يمنع من تبديل الخبرات والمنافع كلما كانت الفرصة مواتية.
قد يكون شتم الاتحاد الأوروبي مريحا، وهو (الاتحاد) الذي أعرض عن قيم حسن الجوار التي أطلقها الرئيس السابق لهيئة الاتحاد الأوروبي، رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، رومانو برودي، منذ عقدين تقريبا، واستعاض عنها بالشراكة المميزة التي شطب منها مسألة الهجرة تقريبا، مكتفيا بتبادل السلع والخدمات فحسب، وتحصين قلعته بالقانون والبارود. ولكن على الرغم من وجاهة هذا الشجب، ووظيفته النفسية، فإن المسؤولية ملقاة علينا، نحن بلدان الضفة الجنوبية بشكل خاص.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.