اعتداء محدود ورعب غير محدود

اعتداء محدود ورعب غير محدود

09 يونيو 2018

فريد زهران والاعتداء على "الحركة المدنية الديمقراطية" بالقاهرة (تويتر)

+ الخط -
الدماء تغمر رأس الرجل الستيني وملابسه، ومعها يغمر الرعب مزيداً من النفوس مما قيل غير ذلك. الرجل هو فريد زهران، رئيس الحزب المصري الديمقراطي، وأحد الشخصيات التاريخية لليسار المصري منذ دوره في حراك طلاب السبعينيات، وكونه المتهم الرابع في قضية انتفاضة الخبز عام 1977. والواقعة هي اعتداء "بلطجية" على حفل إفطار نظمته الحركة المدنية الديمقراطية لأعضائها.
تبدو الواقعة بحد ذاتها محدودة للغاية بالقياس لأعداد القتلى والمعتقلين والمطاردين، ولم تتعد خسائرها تحطيم محتويات مكان الإفطار، وبعض الإصابات، بسبب الضرب بالكراسي والصحون، لكن رسائلها وانعكاساتها غير محدودة.
كانت الحركة التي وقعت على بيانها التأسيسي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي سبعة أحزاب، ونحو 150 شخصية، تحاول الحفاظ على قدر من التوازن في خطابها، التأكيد على دعمها الدولة ضد الإرهاب، تصدير شخصياتٍ ذات تاريخ حكومي، حتى أن هذا الإفطار تحديداً كان يحضره أربعة وزراء سابقين، فضلاً عمن عملوا سفراء أو نواباً في البرلمان وأعضاء حاليين في المجلس القومي لحقوق الإنسان. في المعتاد، كان هذا الخط يوفر قدراً من الحماية المعنوية.
وأيضاً لم تكن المناسبة مظاهرة أو مؤتمراً شعبياً أو حتى اجتماعاً سياسياً، وهي الحالات التي كان يتم في عهد حسني مبارك أو في العهد الحالي محاولة إفسادها بإطلاق "البلطجية" أو جنود أمن مركزي بملابس مدنية، بل كان كل ما في الأمر مجموعة محدودة من الأشخاص يلتقون في مناسبة خاصة غير معلنة، وفي مكان خاص جداً هو النادي السويسري التابع للسفارة السويسرية. وبالطبع لا يعرف أغلب المصريين بمجرد وجود هذا المكان.
لذا ما حدث هو خرق محض لكل ما اعتادت عليه الحياه السياسية المصرية. رسالة مفادها بأنكم مُذلون مُهانون، كلكم عرضةٌ للأذى، بما في ذلك الاعتداء الجسدي المباشر. لا خطوط حمراء، ولا حماية لمعارضٍ، أيا كان شخصه، وأياً كان سقفه، وهي رسالة الاعتداء نفسها على هشام جنينة، وحملة الاعتقالات أخيراً ضد النشطاء التي شملت وائل عباس ذا الشهرة الدولية، وشادي الغزالي حرب والذي ما زال عمّه أسامة الغزالي مقرّباً من السلطة الحالية، ومدعواً لكل مؤتمرات عبد الفتاح السيسي.
وعلى الرغم من أن الفترة الأخيرة شهدت تواصلاً ما بين جهات مخابراتية وشخصيات حزبية، وأسفرت عن شمول أبرز كوادر "العدل والحرية" و"المصري الديمقراطي" المعتقلين بالعفو الرئاسي قبل عيد الفطر، وذلك بالتوازي مع ذكر السيسي، في خطابه الأول، بعد أداء اليمين الدستورية أن من أولوياته حماية الاختلاف، إلا أنه، وبسرعة فورية، تم عكس هذا التيار بالأفعال، لا الأقوال، وما أسهل أن يُعاد التواصل، ويُقال إن ما حدث كان خطأ من جهة أمنية أخرى، بعدما وصلت الرسالة المهينة، وهي أننا نمنح ونحجب بمعايير تخصنا ولا تخصكم، وعليكم القبول، لا كشريك يتفاوض، بل كتابع يتلقى العطايا، ولكم سقفٌ محدودٌ لا يشمل، بالتأكيد، حملة معارضة اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير، أو الدعوة إلى مقاطعة انتخابات الرئاسة، وهو ما أحال النائب العام بلاغاته إلى التحقيق، ومازال سيفاً مسلطاً.
على الطرف الآخر، تبدو كل الخيارات شديدة الصعوبة، في ظل "هزيمة بنيوية" للقوى السياسية والشعبية، كل الوسائل مشكوكٌ في جدواها، وكل الوسائل تحتمل مخاطرات فادحة، سواء كانت دعوة إلى النزول إلى الشارع، أو مقاطعة الانتخابات، أو مشاركة فيها، أو حلاً للأحزاب، أو اعتصاماً في مقراتها.. إلخ، وهو ما يستدعي دائماً خلافاتٍ واسعةً في أثناء طرح الخطوات العملية في ضوء الإمكانات والمخاطرات. ولعل هذا ما انعكس في بيان الحركة المدنية بعد الاعتداء، عبارات إدانة وانتقاد عالية السقف، ثم يقتصر الفعل على إقامة حفل إفطار بديل لا أكثر!
من زاوية أخرى، لعل هذا "اللافعل" هو بحد ذاته فعلٌ ما، محاولةٌ لمجرد البقاء حفاظاً على الأفراد وترابطهم وأفكارهم. مجرد فعل البقاء في انتظار لحظةٍ مواتيةٍ سياسياً في ظروف داخلية وخارجية أفضل. ولعل موجة الاحتجاجات الاجتماعية في الأردن وتونس والبرازيل والأرجنتين وغيرها، وموجة التقلبات السياسية في كل مكان، تُسفر، بعد حين، عن ميلادٍ مصري جديد، نخب جديدة، وأفكار جديدة، وخيارات جديدة.

دلالات