علمانيون لا يجدون من يدافع عنهم

علمانيون لا يجدون من يدافع عنهم

08 يونيو 2018
+ الخط -
استفاد أصوليو سورية من سياسات النظام في مجال الدين، حيث كرّس تديناً وتطييفاً للمجتمع منذ السبعينيات، وبشكل أكبر بعد أن تحالفت معه المؤسسة الدينية في مرحلة الثمانينيات. كان نتيجة ذلك أن النظام أعاد إنتاج المجتمع طوائف ومذاهب وقوميات. على الرغم من ذلك، جاءت الثورة السورية لإطاحة النظام، والتخلص من الأزمات الاقتصادية التي تراكمت مع سياسة الانفتاح الواسعة منذ بداية العام 2000، وكان وعي الناس ينطلق من ضرورة تغيير الأوضاع العامة. ولم يتوان النظام عن السحق المطلق منذ العام 2011، وأطلق للهدف نفسه الجهاديين من سجونهم، وأتاح جلبهم من الخارج، لكنه انهزم أمام الثورة في 2012، فجاءت إيران لتنقذه، وبفشل الأخيرة استدعيت روسيا 2015. في هذه الأجواء، انحسرت الثورة الشعبية وشعاراتها في التغيير الثوري، وتكرس وعيٌ إسلاميٌ مناهض للنظام. لم يكن كذلك في بداية الثورة، لكنه أصبح كذلك بعد مرور عامين تقريبا، ولأسبابٍ لا علاقة لها بالثورة.
خضع الشعب تدريجياً للفصائل الإسلامية والجهادية، والتي تعاونت مع دولٍ إقليمية. الشعب الذي خضع عاش ورأى بأم العين كيف يكون الحكم إسلامياً. الشعب الذي ظل بأغلبيته متديناً لم يرَ تطابقاً بين تديّنه وإسلامية الفصائل. حاول جاهداً إيقاف المد الأصولي؛ تظاهر، حمل السلاح، استعان بالقبيلة، بل وفي بعض المناطق طالب بإعادة النظام للتخلص منهم. تابعتُ ظاهرة رفض الشعب الإسلاميين في أكثر من مدينة من ريف دمشق إلى ريف حماة إلى إدلب ودير الزور، وكان هناك تحليلٌ لأشخاصٍ ليسوا علمانيين ولا يساريين، وليسوا من أصحاب العقائد العقلانية، وقد أكد هؤلاء أن الناس أصبحت تميل إلى العلمانية، وقال بعضهم إن الإلحاد يتوسع كثيراً، ولم يعد لدى الناس أية ثقة بأي مشروعٍ إسلامي.
ربما تكون في هذه الاستنتاجات مبالغة ما. وربما تشكلت بسبب همجية سياسات الإسلاميين إزاء أناسٍ محسوبين على الطائفة السنية، ويجدون غرابةً في تطبيق شريعة متناقضة مع 
إسلامهم الشعبي. طبعاً هناك اختلاف كبير من الإسلامين، الجهادي والشعبي، وهناك تقاربٌ بين الشعبي والرسمي، لكن موضوعنا هنا أن هناك تململاً كبيراً من الرؤية الإسلامية للمجتمع وللحكم، ورغبة في التخلص منها.
أكثر من خمس سنوات عاشها البشر تحت حكم الإسلاميين. عاشوا فشلهم الكامل في تطبيق الشريعة، ورأوا اشتعال الحروب بين بعضهم بعضا، وقتلوا بسبب ذلك آلافا من الشباب السوري، كما حدث تقريباً بين كل الفصائل الإسلامية والجهادية. يندر وجود منطقةٍ لم تحدث فيها الحروب الإسلامية هذه؛ ففي الغوطة اندلعت بين "جيش الإسلام" و"داعش" وجبهة النصرة وفيلق الرحمن وغيره؛ وفي إدلب بين جبهة فتح الشام وأحرار الشام، وهكذا في كل المدن السورية. عدا أولوية الإسلاميين في خوض المعارك ليس ضد النظام، بل مع "الكفار والصحوات" في مناطق سيطرتهم نفسها، أي مع ثوار 2011!. وهناك وعي مناهض لجماعة الإخوان المسلمين، والذين لم يحسموا أبداً في شكل الحكم، أهو دولة دينية أو دولة علمانية، وبين الدعوي والسياسي، وما زالوا يناورون في هذه القضية بحججٍ واهية "دولة مدنية"، وهو ما يؤكد أنهم ما زالوا طائفيين، ويعتمدون الدين مرجعية في الحكم، وليس الديموقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان في السياسة، وعدم الاكتفاء بالدين دعوةً وأخلاقا وإيمانا، أي في القضايا الخاصة بعلاقة الإنسان بالله. هذه الممارسات في تسييس الدين، وبعد التجارب والفئوية في الممارسات، ولصالح أتباعهم فقط، أوضحت للناس أن الدين شيء والإسلاميين شيء آخر. وعدا ذلك، هناك تبعية للخارج، وانعدام للوطنية، وإقامة تمييز كبير بين السوريين وفقاً للعقائد. وقد أسقط هذا الوعي الذي تراكم عبر سنوات الثورة كل المظلومية العائدة إلى حرب الثمانينيات، وكذلك مبرّرات تشكيل فصائل إسلامية لحماية مناطق الثورة. رأى الناس أن الإسلاميين أعادوا النظام إلى مناطقهم، وهربوا بعد أن عقدوا صلحاً معه، بينما ثوار 2011 و2012 قتلوا في الشوارع والمعتقلات وهجروا.
مشكلة السوريين الثوار وغير الثوار الآن هي مع نظامٍ لا يتوقف عن تكريس الوعيين، الديني 
والطائفي من ناحية، ومع القوى الإسلامية والجهادية ومن مثقفين كثيرين لا يتوقفون عن إنتاج الوعي الطائفي من ناحية ثانية. لا يجد السوريون مشروعاً وطنياً يفصل بين عالم الأديان وعالم الواقع. عالم الثقافة والسياسة السورية مليء بالنقاش و"الثرثرات" عن الأكثرية والأقليات، وعن السنة والشيعة، وعن نظامٍ علويٍّ حاكم ومجتمعٍ سني محكوم. ليس النقاش بهذه القضايا هو المشكلة، لكنه في آليات النقاش، وكيفية الطرح. ليس النظام كتلة صوانية علوية، والمعارضة ليست معاكسا لذلك أيضاً، وما يتعمم هو التطييف، وهنا المشكلة.
السوريون بأغلبيتهم ليسوا طائفيين، لكنهم متدينون. المشكلة هنا في عدم الخروج باستنتاجاتٍ عمّا حدث طوال السنوات السبع وأسباب الثورة قبل 2011، وبقاء الحوار ضمن قضايا الطائفية. البلد الآن محتلٌّ بالكامل؛ والسؤال أين النقاش الذي يجادل في قضايا السياسة السورية، ومنها الطائفية، وعلاقة ذلك بالاحتلالات؟ ثم أليس الفصل بينهما يخفي تأييداً للاحتلالات، وتساهلاً مع الوعي الطائفي؟
التعقيد الذي أصبحت عليه سورية يكمن بين أغلبيةٍ رافضةٍ التطييف وأقلية من المعارضة والنظام يعتاشون عليها، وبين أكثريةٍ مهجرةٍ واحتلالاتٍ ترسم مناطق نفوذها وبإصرار مستمر؛ فأغلبية السوريين يتساءلون: ماذا استفدنا من التطييف والاحتلالات وكل هذا القتل؟ يُضاف هذا التعقيد إليه انهيار الوضع العام لأغلبية السوريين، في الداخل أولاً وفي مناطق الجوار لسورية ثانياً. التعقيد هذا، أيضاً من أسباب صعوبة تشكيل مشروع وطني علماني.
فكرة المقال هنا أن أسبابا كثيرة تدفع أغلبية السوريين نحو تبنّي مشروع وطني علماني، رافض للنظام وللمعارضة ولكل رؤيةٍ تنطلق من الديني والطائفي والقومي؛ تعيش هذه الأغلبية بشروطٍ كارثية، ولكن يَصعب عليها إنتاج تصورات عقلانية وعلمانية، وتجديد الثورة في فضائها الأساسي من أجل تغيير النظام، والوصول إلى نظام عادل، وطي الأزمات المركبة.
سورية التي أصبحت محتلة، تمور أرضها بأفكارٍ وتصوراتٍ كثيرة، من بينها التصور الثوري العلماني، فهل يجد من يتبنّاه من المعارضة والثوار؟