محمد الحارثي.. بعمره يصنع الحكايات

محمد الحارثي.. بعمره يصنع الحكايات

07 يونيو 2018
+ الخط -
على عينه يصنع الحكاية، ثم يسخر منها، أو يرميها على قارعة الطريق، أو ينساها، كي يرحل وحيدا في أطراف الدنيا. الحكاية لعبته وعكّازه وهوى عمره. لا يطيب لمحمد الحارثي الجلوس والضحك من دون أن يصنع "سالفة"، حتى وإن زهدها ورماها مللا في فنجان، أو في جذع شجرة، أو في بحر. المهم أن يكون الصانع رائق البال، والطبيعة في صالح هواه ومعينة مزاجه، إلا أن الشعر سردابه الأخير، والارتحال زاده إن قلّ الزاد، وزادت الجبال من حوله كآبةً، وتعطل الكلام تماما أن يأتيه.
(1)
كانت الرمال حولنا بهيّة وطاهرة، والقمر من بعيد في بهائه يبصّ علينا تلصّصا، وأبو الكلام (الهندي) يجهّز الجمر للحم الخروف بالتوابل، ومحمد لم يصنع حكايته بعد، حتى نضج الخروف تحت الأرض، وبدأ الليل والكلام والسهر واقتربت النجوم من الكؤوس. وعبدالله أخضر، بعينيه يراقب ويجمّل مائدة كرمه لنا، ولوفد ياباني أغلبه من البنات. ومحمد ينسج أول خيوط حكايته بشرط أن ينام القمر، وتتعب نجومه في آخر الليل. وعبدالله، رحمه الله، يعمل حساب الأمر كله، وخائفٌ على أموره، وخاصة إن نعس القمر في آخر الليل.
البنت اليابانية الجميلة متجاوبة مع محمد كأنها لأول مرة تحكي مع كاهنٍ في الصحراء، والقمر حلو في تمامه هناك، وأبو الكلام يأتي برأس الخروف طيّبا على طبق، ويرقص الكلام رقصا في حكايات محمد، واليابانية في هيامٍ مع نقلات حكاياته التي تطوف بها كل البلاد، وعبدالله هناك، في آخر الليل، يحرس الخيام، خوفا من أن ينط قمر في خيمة اليابانية، حتى طلع الصباح.
(2)
في عودتنا، أنا ومحمد فقط، في سيارته، قال سأريك أمي التي لم تلدني، لكنها ربّتني بعد موت أمي. في الطريق انحرف فوق كوبري مرتفع وطويل، فدخلنا قريةً في ظهيرة عيد. قال لي:أنت قاص، ولا تملك سوى حنان عينك في الشوف، فشغّلها بذكاء كي أختبرك. ولكن حافظ أيضا على حياء العين لضرورةٍ سأحكيها لك بعد خروجنا. فور دخولنا البيت الهادئ، مالت أمه قليلا، وقبّلت يده شبه مخنوقةٍ بدمعٍ لا يُرى.. ولامت أيضا الكبر والبعد، هي زوجة والده التي جاءت بعد موت أمه وربته. وفي خروجنا قالت له: هذه لحمتك جهزتها لك .. ثم غلبها الدمع في الوداع، قبل أن ينحرف هو قليلا عني، ويقبل رأس شخصٍ في الظلام فوق عجلته المتحرّكة.
حافظت على حياء العين، حتى خرجنا، وإذا به يقول: لو كنت مشيت من دون أن أسلّم كانت زعلت مني، إلا أن أعود بعد أي وقتٍ، بشرط أن آخذ لحمة العيد، فأنا ولدها الذي تعبت فيه.. ثم قال: هل لمحت الشخص الذي كان في الظلام؟ قلت: فقط بربع عين، حفاظا على الوصية، وصيتك. قال جادا: هذه هي الحكاية التي أردت أن تراها بعينك، وسأحكيها لك.
(3)
ونحن على أول الكوبري من ناحية القرية، بدأ يحكي: بترت ساقه في الهند، بعد مرضه بالسكري. كان بطلا ومحاربا، وكان صديق والدي أيضا. .. قال: كان يقود مدفعه من فوق هذا الكوبري، حتى انتهت الحروب، ودخل علينا النفط، وها هو بعد سنواتٍ قد صار على الكرسي، ويفضّل دائما الضوء الخافت كما رأيت، ثم أكمل: لعن الله السياسة والحرب.. ولكن: هكذا تكتمل صور الأعمار.
ابتعدنا عن القرية، ففتح راديو السيّارة، وجاءنا صوت شادية منسابا، كأنه الحرير يضحك ويكركر ما بين هامات الجبال.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري