الولايات المنحرفة الأميركية

الولايات المنحرفة الأميركية

05 يونيو 2018
+ الخط -
الدولة المنحرفة، أو الدولة المارقة، وصف لطالما أطلقه علماء السياسة الغربيون وساستهم على الدول التي تخرج عن الإطار العام، والمصلحة العامة التي يتفق عليها أغلب أعضاء المجموعة الدولية.. هذا بحسب تعبيرات مراجع العلوم السياسية الغربية الحديثة. وقد ذهب باحثون كثيرون، قبل سنوات بعيدة، إلى التأكيد على أن الدول، أو من هم في مواقع السلطة، يمكن لهم التورّط في أفعالٍ تجرّ عليهم الوقوع تحت هذا الوصف. ومن هؤلاء إدوارد سجارين وروبرت كيلي في كتابهما "الانحراف السياسي ومفهوم المسؤولية" (1986). ويقدّم عالم آخر في العلوم السياسية، وهو ميروسلاف نينيتش، وصفا إضافيا للدولة المنحرفة، فيضيف أنها التي تشكل تهديدا للمجتمع الدولي، وذلك في كتابه الصادر عن مطبعة جامعة كولومبيا في 2007 "النظم المارقة، مواجهة السلوك المنحرف في السياسة العالمية". أما معجم ويبستر، فيقدم وصفا أكثر مباشرة وشمولا هو: الدولة المارقة أو المنحرفة هي التي تضل وتنحرف عن الأعراف المقبولة، ولا تحترم الدول الأخرى في تصرّفاتها الدولية.
وبنظرة سريعة على الساحة العالمية، لا تحتاج إلى عناءٍ كثير، يجد أي مدقق أو متابع للأحداث الدولية أن أكثر دولةٍ يمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف في الوقت الحالي هي الولايات المتحدة الأميركية التي تتزعم إطلاق هذا الوصف على كل الدول التي لا تعجبها. ويمكن القول إن سلوك الولايات المتحدة، باعتبارها دولة مارقة، يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت تحل محل الإمبراطورية البريطانية كدولة استعمارية، وأسست ما يسمى جهاز
الاستخبارات القومي الذي عاث في الأرض فسادا بكل معنى الكلمة. وقد بدأ سلوك الولايات المتحدة، باعتبارها دولة منحرفة عن المجتمع الدولي، ينكشف بما لا يدع مجالا للشك أخيرا في أكثر من موقف منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في البيت الأبيض، والذي نقض تقريبا كل ما أبرمته إدارة سلفه، باراك أوباما، من اتفاقات ومعاهدات، بما يضرب حتى فكرة أن أميركا دولة مؤسسات، وإن كانت مقولة محل نقاش كبير.
وعلى الرغم من أن الأمثلة على انحراف الولايات المتحدة كثيرة، وتكاد تغطي الكرة الأرضية بأسرها، فإنه يتضح أكثر في ثلاثة أمثلة، بداية من نقض ترامب اتفاقية باريس للمناخ التي تنظم مستوى انبعاثات الغازات المسببة لارتفاع حرارة الأرض وانسحابه منها، على الرغم من تحذيرات دولية عدة، إلى رفض الاتفاق النووي مع إيران الذي قبلته كل الدول الكبرى ولا تزال. وأخيرا وليس آخرا قضية القدس، وإقدامه على ما لم يجرؤ عليه رئيس من قبله، اعتباره القدس عاصمة لإسرائيل.
وما يجعل الولايات المتحدة هنا دولة منحرفة مارقة أن المصطلح ينطبق عليها بكل حذافيره، فهي كدولة ومجموعة أشخاص متحكمين في السلطة، ممثلين في فريق ترامب، خرجت عن الإطار الدولي العام، ومصلحة الجانب الأكبر من المجموعة الدولية، وباتت تصرفاتها على المستوى العالمي لا تحترم بقية الدول، ففي الأمثلة الثلاثة السابقة تقف الولايات المتحدة ضد إرادة العالم بأسره تقريبا، وضد مصلحة المجتمع الدولي كله، فاتفاق المناخ وقعته ووافقت عليه معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة نفسها في عهد أوباما، والاتفاق النووي أيضا رعته ووافقت عليه الدول الكبرى جميعا، ولا تزال تتمسك به، بينما باتت ترفضه فقط الولايات المتحدة وشقها الأصغر إسرائيل. أما وضع القدس وإجماع العالم على ضرورة أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين المفترض إنشاؤها، ضمنته على مدى عقود الاتفاقات الدولية التي رعتها وأشرفت عليها الولايات المتحدة بنفسها أيضا. وهو إجماع ضربته في مقتل إدارة ترامب الذي وصفه رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي المعزول، جيمس كومي، بأنه يتصرف بطريقة زعماء المافيا. واعتبره الملياردير جورج سوروس خطرا يتهدّد العالم.
والواقع أن انحراف الولايات المتحدة الترامبية عن نظام المجتمع الدولي المعمول به، وممارستها ما تسمى البلطجة السياسية لم يقف عند حد التصرفات المرفوضة، بل تعداها إلى التسبب في أحداث عنف وأزمات ومشكلات لا حصر لها في مناطق عدة، فقد تسببت إدارة ترامب ولا تزال في أزمات بيئية كبرى، كما تسببت في مقتل وإصابة مئات أخيرا بقرار نقل سفارتها إلى القدس، وهي تهدّد العالم الآن بحربٍ لا يعرف أحد عواقبها بانسحابها من الاتفاق
النووي. وهي أيضا وضعت بذور أزمة دبلوماسية مع أوروبا أيضا لا يعرف أحد مآلاتها. وحتى المناطق التي تدخلت فيها الولايات المتحدة، بزعم جلب الاستقرار إليها ومحاربة الإرهاب فيها، لا تزال بؤرا مشتعلة، تهدد سلام العالم ومستقبله من أفغانستان إلى العراق إلى سورية وحتى اليمن، الذي تؤيد فيه حرب ما يسمى التحالف العربي. وقد أحيلت كل تلك الدول خرابا، وغيرها كثير.
هل في العالم دولة أكثر عنفا ودموية وتسببا في الحروب من الولايات المتحدة؟ هل في العالم دولة أكثر محاربة للديمقراطية الحقيقية من الولايات المتحدة؟ هل في العالم دولة أكثر تحريضا وتنفيذا للانقلابات العسكرية من الولايات المتحدة؟ القائمة تطول، ولكن من أراد أن يعرف إجابات موثقة، فإن الكتب المعترف بها في هذا الصدد أكثر من أن تعد، ومنها ما كتبه أميركيون، من الساسة، أو ممن شاركوا بأنفسهم في مؤامرات لقلب أنظمة حكم ديمقراطي، وتثبيت أخرى غير ديمقراطية. من هؤلاء مايلز كوبلاند وكتابه "لعبة الأمم" (1969)، ويتناول الكيفية السياسية التي تدير بها الولايات المتحدة العالم. وجون بيركنز وكتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" (2004)، ويشرح، بأحداث واقعية وبعيني شاهد على التاريخ، الكيفية الاقتصادية التي يتبعها الأميركيون للسيطرة على العالم. ومن الكتب الكثيرة التي صدرت منذ نحو عقدين "نزع القناع عن العولمة.. الإمبريالية في القرن الحادي والعشرين" (2001)، والذي يقدم أمثلة على انقلاباتٍ نفذتها الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، دليلا على أن العولمة استخدمت ستارا لعودة الاستعمار العالمي، وتحت شعار حماية المصالح القومية الوهمي.
C49407D3-F844-48B5-8F59-EE6B978F5DB1
C49407D3-F844-48B5-8F59-EE6B978F5DB1
عصام بيومي

كاتب وإعلامي مصري، ماجستير في العلوم السياسية

عصام بيومي