كلمة السر في تركيا: إخلاص النيات

كلمة السر في تركيا: إخلاص النيات

28 يونيو 2018

فوز أردوغان يتصدر أخبار صحيفة تركية (25/6/2018/فرانس برس)

+ الخط -
(1)
فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئاسة بلاده الأحد الماضي، ليكون أول رئيس وفق النظام الرئاسي، شغل الدنيا وأشعل منصات التواصل الاجتماعي، ودار صراع مرير بين من يؤيدونه ويعارضونه، وهذا طبيعي، فلم يحظ حتى "وسط جمهوره" بتفويضٍ تام، أو شعبية كاملة، إذ لم يؤيده إلا نصف أصحاب حق الاقتراع تقريبا، إضافة إلى نسبةٍ مرجحة قليلة، وهذه هي طبيعة الانتخابات، لكن ما هو مؤكد، ولا يخفى على كل من يتابع، أن الغرب والنظام العربي لم يشعرا بارتياح لهذا الفوز، ومن طالع، في اليوم التالي للانتخابات، الصحف الغربية والعبرية والمستعربة التابعة لأنظمة عربية تناهض أردوغان، وتتآمر عليه، يدرك أن رياح تركيا جرت بما لا تشتهي سفنهم. وتختصر عناوين الصحافة الفرنسية هذا الموقف بشكل مكثف ودال كثيرا، فصحيفة لوموند عنونت خبرها بخصوص الانتخابات بعبارة "أردوغان في المقدمة بحسب النتائج الجزئية والمعارضة تعترض"، فيما اختارت صحيفة لوفيغارو عنوان: "أردوغان يدّعي الفوز بالانتخابات الرئاسية"، وكذلك فعلت شبكة إذاعة فرانس إنفو، قائلة إن أردوغان "يدّعي فوزه بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية". وقالت الشبكة إن المعارضة تعترض على الأرقام (نتائج الانتخابات)، وأفردت مساحة لمزاعم حزب الشعب الجمهوري أن أردوغان حصل على أصوات أقل من 50%.
أما الصحف العبرية فحدث ولا حرج، وعزفت على النغم نفسه. عنونت "هآرتس" "الانتخابات في تركيا.. أردوغان يعلن عن انتصاره، وخصومه يدعون بالتزوير". وعنونت "يديعوت 
أحرونوت" "السلطان لا يزال هنا.. أردوغان يعلن عن فوزه في الانتخابات". والكل في المعسكر إياه ود لو يشكك في الفوز، وأمل أن يشوب هذا الفوز شك بعدم "شرعيته"، غير أن الرد جاء قويا مفحما من منافس أردوغان الرئيس، محرم إينجه، الذي اتصل بالفائز وهنأه، وقال بلغةٍ لا تحتمل اللبس: ما شهدته تركيا حدث ديمقراطي، وعلى من يدعوننا إلى عدم قبول النتائج أن يعيد حساباته، فالنزول والتظاهر ضد النتائج عمل غير ديمقراطي.
(2)
تابع أحد الأصدقاء حماستي وابتهاجي بفوز أردوغان، فأرسل إلي رسالةً ضمنها رصده لحركة التجارة بين تركيا وكيان العدو الصهيوني، كي يثبت أن أردوغان يتحدث بشيء تجاه فلسطين، ويفعل شيئا آخر مع عدونا، ومما جاء في الرسالة: لست معنيا بتعكير فرحة أصدقاء لي بانتخاب أردوغان، ولكن لعلمي ويقيني أنهم يحبون فلسطين أكثر، والحقيقة أكثر وأكثر، فإنني أعرض بعض الحقائق، غير القابلة للتأويل: "علمنا" الرئيس التركي أردوغان، أنه كلما علا صوته ضد الصهاينة، فإن هذا يكون للتغطية على ضجيج حركة الشحن بين تركيا وإسرائيل. ومعروف أن حقيقة العلاقات السياسية تكمن في الاقتصاد. وهاكم بعض الحقائق:
التبادل التجاري بين إسرائيل وتركيا في العام الماضي 2017 بلغ 4,3 مليارات دولار، منه 2,9 مليار صادرات تركية، وقرابة 1,5 مليار صادرات إسرائيلية. الحصيلة السنوية بين الجانبين تعلو وتنخفض بفعل صفقات ليست ثابتة لبضائع ليست استهلاكية. في العام 2014، التي كان فيها لا يزال "الغليان السياسي" قائما مع تصريحات بركانية يطلقها أردوغان، سجل التبادل التجاري ذروة غير مسبوقة: 6,8 مليارات دولار، منها 2,8 مليار صادرات إسرائيلية، وهذه سجلت زيادة بنسبة 534% مقارنة مع الصادرات الإسرائيلية الى تركيا في العام 2000، خلال الحكم السابق. أثبتت كل التقارير الإسرائيلية أنه منذ "الأزمة" التي اندلعت في 2009، وتأججت في أعقاب أسطول الحرية في العام 2010، كان التبادل التجاري التركي الإسرائيلي يرتفع سنويا. أردوغان وعلى لسان مبعوثيه، وبضمنهم السفير الحالي في تل ابيب، أعلنوا عن رغبتهم بمد أنبوب غاز من الحقول التي تسيطر عليها إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط إلى تركيا. السفير التركي في تل أبيب، كمال أوكام، قال قبل عام في مقابلة تضمنتها مجلةٌ خاصة أصدرها الجانب الإسرائيلي في المجلس الاقتصادي والغرفة التجارية التركية الإسرائيلية "إن العلاقات السياسية بين الجانبين لم تتوقف، وكذلك العلاقات الاقتصادية، بل ازدهرت".
لست هنا في وارد "الدفاع" عما سبق، ربما يحمل جانبا من الحقيقة، لكن بقية الحقيقة يجب أن تقال، فليس مطلوبا من تركيا أن تكون عروبيةً أكثر من العرب، ولم يعلن أردوغان نفسه خليفة للمسلمين، ولا ينبغي أن يُحاكم باعتباره قديسا نزل من السماء ليقيم على الأرض العدل، فهو زعيم لم ينشئ علاقات مع إسرائيل، بل هو ورث تركيا متحالفةً بالكامل مع المشروع الصهيوني، أيام حكم العسكر، ولو أعلن انسحابه منذ اليوم الأول لتسلمه الحكم من اتفاقات تركيا مع إسرائيل، لأعدم كما أعدم عدنان مندريس (رئيس وزراء تركيا في الخمسينيات) وصدام حسين، وهو زعيم دولة وليس قائد ثورة، دولة لها مصالح، أعارضه في كل ما يتعلق بإسرائيل، لكني أؤيده في دعمه قضية فلسطين، ولو بالقدر القليل أو المستطاع، وأقارن بينه وبين المهرولين العرب للحس أقدام الصهاينة، فأجده أكرم منهم، فضلا عن أنه أعاد تركيا إلى مكانتها التي تليق بها بين الأمم، وآوى في بلاده ملايين من العرب، اضطهدتهم حكوماتهم، وطاردتهم في لقمة عيشهم.
(3)
كلمة السر في تركيا كانت هي: صميميتْ، أو صميميةْ، وهي كلمة تركية، من الواضح أن 
أصلها عربي، وتكتب هكذا بالتركية: samimiyet، ومعناها الإخلاص في النيات، أو صدق النية، ويقال فلان ليس صميميا، أي ليس صادقا، أو نيته ليست صافية، وحسب اشتقاق الكلمة في أصلها العربي، فهي مشتقة من صميم، والكلمة في قاموس اللغة تعني: الشجاع، الشديد، صاحب العزم والرأي، الأسد، السيف الماضي، العظم الذي به قوام العضو، الخالص، المحض .وكلها معانٍ تجدها في هؤلاء الذين يقودون تركيا اليوم، وبلا أي مبالغة.
سمعت هذه الكلمة (صميميتْ) قبل نحو ثلاث سنوات من سردار جام، وكان رئيس وكالة التعاون والتنسيق التركية، وهي مؤسسةٌ كانت تتبع رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان (آنذاك) شخصيا، ومهمتها تقديم المساعدات لمن يحتاجها خارج تركيا، وقد أنفقت مليارين ونصف المليار في أحد الأعوام في عدة دول عربية (خصوصا دول الربيع) وغير عربية. وبالطبع أنت لا تستطيع إنفاق هذا المبلغ وأهلك يحتاجونه، وهو بحد ذاته مؤشّر على عافية المجتمع التركي وصحته، الحديث عن صميميتْ هذه، في سياق فك كود النجاح الذي يحققه هذا البلد، في مختلف المجالات، وهو ما يفتقده العربان والغربان الذين يتميزون من الغيظ، بعد أن اجتاز الرئيس أردوغان ثلاث عشرة تجربة انتخابات على مدار سني حكمه، فاز فيها كلها، وفوّضه الشعب، لا الدبابات ولا العباءات، لقيادة بلده بالنيات الطيبة.