عن سياسيٍّ هزمه العسكر

عن سياسيٍّ هزمه العسكر

27 يونيو 2018

عبد الرحمن البزاز (1913-1973) للعسكر: لكم الثكنات ولنا الوزارات

+ الخط -
يشعر الأمر، في أزمنة الردة والنكوص، بالحاجة لاستعادة بعض ما اختزنته ذاكرته من وقائع مهمة مرت، ورموز متفردة عبرت، بعد أن لعبت أدوارا استثنائية في التحدي والمواجهة وصنع الأحداث. وهو يفعل ذلك، لأن تلك الوقائع والرموز تخلق عنده الدافع لمعاينة الواقع الماثل بصرامة وحزم، وتستفزّه باتجاه العمل على تغيير ما يمكنه تغييره، ذلك ما يشعر به عراقيون عديدون، وهم يستعيدون اليوم ذكر رجل الدولة الراحل، السياسي والخبير في دساتير الدول وقوانينها، عبد الرحمن البزاز، المعروف بفكره ومواقفه الجريئة التي التزم بها، حتى رحيله عنا مغدورا في 28 من يونيو/ حزيران من عام 1973 إثر تعذيب وحشي واجهه في سجنه على خلفية طروحاته الفكرية والسياسية.
البزاز هو السياسي العراقي الوحيد الذي تحدى سلطة العسكر الذين هيمنوا على القرار بعد قيام الجمهورية، وحتى وثوب البعثيين إلى السلطة الذين تلبسوا لبوس العسكر، ومارسوا أدوارهم على نحو أكثر شراسة، وهو صاحب شعار "لكم الثكنات ولنا الوزارات" الذي أطلقه في مواجهة تنمّر العسكريين وسطوتهم في أثناء تقلده منصب رئيس الوزراء مرتين، في عهدي الرئيسين عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن عارف، وهو الشعار الذي ألّب العسكريين ضده، حتى استطاعوا هزيمته، وإبعاده عن موقع "رئاسة الجمهورية" بعد وفاة عبد السلام عارف، وهو المنصب الذي كان سيؤول إليه، لولا تدخلهم وإصرارهم على إسناد الموقع الأول في الدولة إلى عارف الثاني، وفي حينها تنازل البزاز له عن الأصوات التي حصل عليها، إثر تهديدهم باستخدام القوة.
عرف عبد الرحمن البزاز، منذ تعامله في الشأن العام، باحترامه الدستور، ودعوته إلى بناء 
دولة قانون، وقد كلفته مواجهاته تلك الاعتقال والمحاكمة مرات، وكان أول من رفض حكم العسكر، ودعا إلى عودتهم إلى ثكناتهم وانتقال العراق من "الشرعية الثورية" إلى "الشرعية الدستورية"، وإقامة نظام دستوري برلماني، يعتمد التعدّدية الحزبية وقاعدة تبادل السلطة، حيث "لا تكون هناك مجالس عرفية، ولا أحكام عسكرية، ولا محاكم استثنائية، ولا دبابات في الشوارع"، الأمر الذي أغضب الضباط الذين استأثروا بالمواقع الأولى في الدولة، ووضعوا السلطات الثلاث بأيديهم، وهو ما جر على البلاد مآسي وأهوالا ما تزال آثارها ماثلة.
وفي مواقفه الفكرية ووجهات نظره في الشؤون العامة، كان البزاز واسع الأفق، جريئا لا يخشى غضب خصومه أو نقمتهم، وهو أول من نادى بضرورة التحالف بين التيارات العروبية وتيارات الإسلام المعتدل، لكن تلك النظرة لم تحظ بالترحيب من البعثيين والقوميين الذين ما لبثوا أن راجعوا أنفسهم بعد عقد، وأعلنوا تبنيهم فكرة التحالف إلى درجة أن أطلق البعثيون ما سموها "الحملة الإيمانية"، تعبيرا عمليا عن إيمانهم بهذا التوجه. وفي الجانب الاقتصادي، رفض البزاز قرارات تأميم الشركات ومؤسسات القطاع الخاص في منتصف الستينيات، ووصفها بأنها مرتجلة وغير مدروسة، وغير مأمونة العواقب أيضا، ونادى ب "اشتراكية رشيدة" تضع المرافق الأساسية (النفط والكهرباء والماء وطرق المواصلات والاتصالات) تحت إدارة الدولة، على أن تعمل على تنمية القطاعات الأخرى، لتوفير الرفاهية لعموم الناس، ورفع مستوى الطبقات الفقيرة والمعدمة التي عانت من الاستغلال.
ويسجل للبزاز رفضه استخدام السلاح في حل المشكلة الكردية، ويذكر الأكراد أنفسهم عنه أنه أول حاكم يتبنى حلا سلميا وديمقراطيا، ضمّنه في الاتفاق الذي وقعه في أثناء توليه رئاسة الحكومة في عهد عبد الرحمن عارف مع القيادة الكردية.
لكن البزاز الذي لم يكن ليتقن لعبة السلطة خسر، في النهاية، جولته مع العسكر الذين وجدوا الفرصة ليهزموه، وقد تراجع أمامهم وآثر العزلة، بعدما أدرك ان إصراره على مواجهتهم قد يجرّ البلاد إلى عواقب وخيمة، واختار النفي ليقيم في بريطانيا فترة إلى أن جاء البعثيون إلى السلطة، وقدّر أن في وسعه أن يعود إلى البلاد، وأن يساهم من جديد في الشأن العام، لكن تقديره الخاطئ قاده إلى موته، إذ اعتقل عند وصوله إلى بغداد، وتعرّض لتعذيب شديد، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد مطالبات عربية ودولية، وبعد ما عرف سجانوه أن نهايته أصبحت قريبة، ولم تمض بضعة شهور، حتى رحل البزاز الذي يذكره العراقيون اليوم بالخير، وبهالةٍ من التبجيل. يكفي أنه كان أول من أدرك مبكرا شرور العسكرتاريا والأحزاب الشمولية وآثامها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"