صفقة القرن والبيئة المساعدة

صفقة القرن والبيئة المساعدة

25 يونيو 2018
+ الخط -
تتكثف الجهود الأميركية للتهيئة لصفقة القرن، وتتكثف، بالتوازي، الظروف العربية والفلسطينية المساعِدة على تمريرها، للأسف. وعلى الرغم من أنها لم تُعلَن بعد، رسميا، إلا أن التسريبات تدلّ على مدى اقترابها من رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرِّف والعنصري للتسوية، ولا سيما مع هذا الاقتراب بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو.
ومن العلامات الرئيسة في هذه الصفقة، التصفوية، إبقاءُ الأوضاع الاحتلالية على ما هي عليه، من دون انسحاب من الحدود مع الأردن، ومن دون انسحاب من المستوطنات، ومن دون عودة للاجئين، ومن دون تراجُع عن "القدس الموحَّدة"، عاصمةً أبديةً لدولة الاحتلال، مع الاستعداد لمنح الفلسطينيين قرية أبو ديس عاصمةً بديلةً عن القدس، ومن دون الحديث عن دولة فلسطينية مُوحَّدة بين الضفة الغربية وغزة. ويتوازى مع هذا المسار السياسي العدمي مسارٌ اقتصادي، تنفيسي، تخفيفي، في قطاع غزة، مع استمرار السلطة الفلسطينية في إدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ليس مستغربا حجم التراجُعات، سواء من أميركا التي طالما أعلنت عن تبنِّيها حلّ الدولتين، أو من نتنياهو الذي أعلن في العام 2009 قبوله بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، شرط اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، مع أن والده لم يلبث أن كذّبه، وأنه الأعرف به. المستغرب هو ما يصدر عن الطرف الفلسطيني، وكذا والعربي. ... ترفض السلطة الفلسطينية "صفقة القرن"، لكنها تستمرّ في سياساتٍ تصبّ في إنجاحها، ولعلَّ أقرب مثال على ذلك تعامُلها مع الحراك الذي هدف إلى رفع العقوبات عن قطاع غزة بوحشيةٍ لا تتناسب مع طبيعة الحدث، ولا مع ما يُفترَض أن يكون مِن تفهُّم، ولو في الحدِّ الأدنى، وما يفترض من حساسية سياسية، وشعور بالمسؤولية الوطنية، إزاء مثل هذا الوضع الفلسطيني المُعقَّد، وطنيا ووجدانيا.
 ويدلّ هذا التعاطي إلى أيِّ حدٍّ تحقَّقت (الآليِّةُ) شبه المستقلة، في العمل المؤسَّساتي في السلطة، ولا سيما في المؤسسة الأمنية، وهو الجهاز الضامن لصيانة السلطة، والجهاز الفاعل، من دون انقطاع، بالتنسيق مع دولة الاحتلال، فلا أهميةَ جوهريةً هنا لمن يشغل منصب الرئيس، فضلا عن أنه لا مراعاةَ لمُقرَّرات الأُطُر التمثيلية الفلسطينية، كالمجلس الوطني الذي انعقد في أوائل مايو/ أيار الماضي، "وأكَّد على وجوب تنفيذ قرار المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين بوقف التنسيق الأمني، بأشكاله كافة"، ثم المطالبة برفع العقوبات عن القطاع.
وفق هذه الحالة، هناك إمكانية لاستمرار التغاير بين المستوى اللفظي، الرافض "صفقة القرن" والمسارات العملية التي على الأقل لا تعيقها، فحرمان قطاع غزة من الرواتب يزيد الضغط عليه، وعلى حركة حماس، ويُفضي إلى إمكانية تعاطيها، مع أطراف عربية ممعنة في التورُّط في تلك الصفقة، وهي مصر والإمارات والسعودية؛ ما ينذر بفرض واقع عملي يكرّس الانفصال، ومع ذلك لا تتراجع السلطة عن تعريض القطاع والقضية لهذا الخطر.
قد يقال إن الهدف من هذا التعاطي مع غزة إجبار "حماس" على إنهاء الانقسام، لكن المتتبِّع لمسار الجهود الفلسطينية لإنهائه يصطدم بذاك التحوُّل نحو التشدُّد في المطالب، بـ"التمكين الكامل"، بتسليم كلِّ السلطات التي بيد "حماس"، دفعة واحدة، وفي صُلْبِها تسليمُ سلاح المقاومة، تحت شعار"سلطة واحدة، وسلاح واحد"، وذلك حصل بعد نجاة رئيس الوزراء، رامي الحمد، ورئيس جهاز المخابرات، ماجد فرج، من محاولة الاعتداء على معبر بيت حانون، في 13 مارس/ آذار الماضي.
وبغضِّ النظر عن أحقيَّة هذه المطالب، ودرجة معقوليَّتها، فإن إهمال الوضع الإنساني، سيما بعد تراجُع مساعدات وكالة الغوث لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في قطاع غزة التي يمثِّل اللاجئون فيه ما نسبته 65.3% من سُكَّانه، بحسب الإحصاء الفلسطيني لعام 2013، لا يدلّ على كبيرِ تقديرٍ لمآلات تلك السياسة الصارمة، ليس فقط على أوضاع الناس في القطاع، ولا فقط، على المشاعر الوطنية، في هذه اللحظة الصِّراعية المهمة، والمتوقَّع فيها حشْدُ الجهود أمام أكبر دولةٍ تصطفُّ إلى جانب أعتى حكومة احتلاليَّة استيطانية متطرِّفة، من دون مبالاة بالسلام واستحقاقاته، وإنما مآلات ذلك على مصير العلاقة بين غزة والضفة (جناحي الوطن)، والمخاوف الجدية من تأبيد الانقسام، وتجهيز حلول أُحادية لكلٍّ منهما، فثمة أولويات وطنية آنيَّة، تتجاوز الخلافات على السلطة، ولا تنفع معها الاستجابةُ التامة للإملاءات الأميركية والاحتلالية فيما يتعلق بسلاح المقاومة.
أما الجانب العربي الرسمي، فهو الآخَر يقوم بعملية تجاوُز للمقرَّرات التي تراجعت إلى الحدِّ الأدنى، وذلك فيما عُرِفت بـ "مبادرة السلام العربية" في بيروت، 2002، والتي قامت على 
مبادلة التطبيع الكامل بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية عليها، والتوصُّل إلى حلٍّ عادل للاجئين، وَفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194. ورفضتها دولة الاحتلال، ربما بناء على تقديراتها أن التطبيع ممكن مع دول عربية مهمة، من دون الحاجة إلى دفع أيّ ثمن، ما دفع دولا عربية إلى مزيد من التنازلات القاضية هذه المرة، وزادت دواعي هذه التقديرات الاحتلالية، بعد وصول نوعية من الحكام أكثر ضعفا، وأكثر تطلبا للدعم الأميركي، وحتى الإسرائيلي الذي ينظرون إليه باعتباره مفتاحا مهما لعلاقات راسخة مع واشنطن، سيما في عهد ترامب.
والصحيح أنه منذ القرار العربي بتحميل فلسطين للفلسطينيين، بل تحميل فلسطين لمنظمة التحرير، باعتبارها، في قمة الرباط 1974 الممثلَ الشرعيَّ والوحيد للشعب الفلسطيني، منذ ذلك الوقت، وعرب كثيرون يلعبون على حبال هذا الحال، فهم لا يتحمّلون المسؤولية مباشرة، لكنهم، من حيث التأثير غير المباشر، يضغطون نحو ما يريدونه أن يظهر كأنه سياسة فلسطينية صميمة. ولعل هذه الآونة هي مِن أشدِّ ما تحتدُّ فيها المفارقة في الصورة، على فرَض أن تستمر إدارة ترامب، في بلورة "صفقة القرن" وإنضاج ظروفها، قريبا. .. كيف سيتمُّ إخراجُ الموقف العربي الفلسطيني، ولا سيما والأثمانُ فادحة، والمواقف المعلنة حتى الآن لا تجرؤ على تقديم تلك التنازلات المطلوبة أميركيا وإسرائيليا؟